نُذُر خريف عراقي ساخن بالاحتجاجات الشعبية

بين خريف 2019 الطافح بالغضب الشعبي وخريف 2023 لا شيء تغيّر في العراق، فالطبقة السياسية المتهمة بالفساد والفشل في إدارة شؤون الدولة ما تزال في مواقعها والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية تزداد سوءا، ما يعني أنّ الأرضية مهيأة لانفجار شعبي جديد قد يكون أشدّ ضراوة من سابقه. لكّنه لن يسلم كسابقه من تجييره لمصلحة قوى متصارعة على السلطة.
بغداد - تلوح في العراق نُذر خريف ساخن بالاحتجاجات الشعبية يعيد إلى الأذهان خريف سنة 2019 الذي شهد أكبر موجة احتجاجات واجهت تجربة حكم الأحزاب الشيعية التي تمكّنت رغم ضراوة الانتفاضة التي واجهتها من الصمود في وجه حركة الشارع والالتفاف عليها والبقاء في السلطة تحت يافطة الإطار التنسيقي المشكّل للحكومة الحالية بقيادة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني.
ودعت حركة تطلق على نفسها “متظاهري الشعب” إلى تظاهرة عارمة في بغداد احتجاجا على سوء الأوضاع وفشل حكومة الإطار بعد عام على تشكيلها في حل مشاكل البلاد وشعبها.
ورغم واقعية الأسباب التي جاءت في حيثيات الدعوة إلى التظاهر، فقد اتجهت الشكوك نحو وقوف رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وراءها من منطلق أنّه سيكون أكبر المستفيدين من أي عملية تسخين للشارع العراقي بعد أن عانى التهميش ضمن العائلة السياسية الشيعية التي ينتمي إليها، ولم يحصل على المركز القيادي في تجربة الحكم القائمة، والذي لطالما اعتبره حقا أصيلا له باعتباره سليل أسرة ذات مكانة بين شيعة البلاد.
وبعد أربع سنوات من موجة الاحتجاج التي كانت قد شملت العاصمة بغداد ومعظم مدن وسط العراق وجنوبه وسقط فيها المئات بين قتلى وجرحى، تعمّ المشاركين في تلك الموجة، وغالبيتهم العظمى من الشبان، حالة من الإحباط بسبب عدم تسجيل أيّ تغيير يذكر في الأوضاع التي دفعت بهم إلى الشارع.
التظاهرة التي دعت إليها حركة "متظاهري الشعب" تنطلق الأربعاء القادم من ساحة النسور بقلب بغداد نحو مقر الحكومة الحالية بالعاصمة
فالطبقة السياسية المسؤولة عن انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية، ما تزال في مواقعها بالسلطة، وأرقام البطالة في تصاعد ودائرة الفقر في توسع ومستوى الخدمات على حاله، والفساد يزداد تغلغلا في مفاصل الدولة، والميليشيات المسلّحة تزداد قوّة وتمكّنا، بينما لاحت معضلات جديدة تواجه البلد وتتمثل خاصة في المشاكل البيئية الخطرة وتناقص المياه مع بروز ظاهرة الاحترار المناخي التي تحولت إلى حقيقة ماثلة في واقع العراقيين وظهرت آثارها على البلد بشكل واضح، دون وجود برامج حكومية واضحة لمواجهتها والحدّ من تبعاتها.
وتنطلق التظاهرة التي دعت إليها الحركة المذكورة الأربعاء القادم من ساحة النسور بقلب بغداد نحو مقر الحكومة الحالية بالعاصمة، لـ”الشروع بتنفيذ المطالب ومحاسبة الفاسدين واستبدال المقصرين”، بحسب بيان للحركة نقلته مواقع إخبارية عراقية.
ومما جاء في البيان “ها قد مرت الأيام ومضى الوقت على الجميع وجاء وقت الحساب والكتاب للسلطة الفاسدة والفاشلة في إدارة الدولة، فقد نفد صبر الشعب وحِلم المجتمع“.
وأشار البيان بالاسم إلى حكومة الإطار التنسيقي الذي يجمع أبرز الحركات والقادة السياسيين الشيعة الذين قادوا تجربة الحكم في العراق منذ حوالي عقدين من الزمن وهي تجربة سجّلت فيها البلاد تراجعات واضحة على كل الأصعدة وشهدت خلالها حربا ضروسا ضد تنظيم داعش خلّفت مآسي غامرة ويعزوها الكثيرون لانهيار الأجهزة الأمنية في فترتي حكم نوري المالكي زعيم حزب الدعوة الإسلامية بفعل ما تسرّب إلى تلك الأجهزة من فساد واعتبارات طائفية.
بيان حركة "متظاهري الشعب" حمل بعض ملامح الخطاب السياسي الصدري
وقال محرّرو البيان “خلال سنة كاملة، استمعنا كثيرا إلى وعود حكومة الإطار وحديثها عن برنامج متكامل لعلاج الأزمات التي تمر بها البلاد. لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث، فالدولار مازال على وضعه يتصاعد أمام الدينار الذي يتهاوى، وتتصاعد معه أسعار السلع الغذائية في الأسواق”.
وأشار إلى عجز الحكومة عن مواجهة كارثة بيئية بصدد التحوّل إلى خطر وجودي يهدّد البلاد وشعبها قائلا “الأنهار والبحيرات جف منها الكثير والباقي في طريقه إلى الجفاف في بلاد الرافدين، والتصحر يزحف باتجاه المدن”.
ودخلت على خطّ الأزمات المتراكمة في العراق أزمة مياه حادّة بدأت تؤثّر على الحياة اليومية للسكان وأنشطتهم الاقتصادية في عدد من المناطق، وتدفع بموجات جديدة من النازحين من المناطق الريفية والفلاحية صوب المدن الكبرى لتغذي أعداد العاطلين عن العمل هناك.
وليست هذه الأزمة بيئية محضة لكنّ لها أسبابا سياسية أيضا تتمثّل في ضعف موقف العراق إزاء جارتيه إيران وتركيا اللتين تضم أراضيهما أهم منابع الأنهار والأودية المتجهة صوب العراق وعلى رأسها نهرا دجلة والفرات اللذان ينبعان من الأراضي التركية ونهر مياه الزاب الأسفل الذي ينبع من إيران.
وتشترك جارتا العراق في السطو على حصصه المائية دون أن تنجح حكوماته المتعاقبة بما في ذلك الحكومة الحالية في الدفاع عن تلك الحصص واستعادتها.
بيان "متظاهري الشعب" رغم واقعية الأوضاع السيئة التي أشار إليها إلا أنه حمل ملامح الخطاب السياسي الصدري
واعتبر البيان أن سيادة العراق “منتهكة والبلاد صارت ساحة لتصفية حسابات دول الجوار مع خصومهم، وتركيا تواصل قصفها وإيران تخترق جسد الدولة والكويت تقضم من أرض البصرة والولايات المتحدة الأميركية تحرك الأرتال والمسيّرات كيفما تشاء”.
وعرض للحالة الاجتماعية في البلاد قائلا إنّ “الشرائح الفقيرة ماتزال على حالها، والصناعة تتراجع، وسرطان الفساد يكبر ويتغول على مؤسسات الدولة باستمرار”.
وفي نبرة لا تخلو من تلويح بتوسيع دائرة الاحتجاجات، ورد في البيان “لأننا أردنا أن نقيم الحجة على هذه السلطة والحكومة، حكومة الإطار التنسيقي وائتلاف تقاسم السلطة ونهب الدولة، فقد اكتفينا خلال الفترة السابقة بالمراقبة والتذكير بمطالب شعبنا عبر التظاهر بكل سلمية وانضباط وتحضر للضغط لأجل تحقيق المطالب الشعبية الوطنية، والتنبيه على مكامن الخلل إلا أننا لم نجد أيّ استجابة أو تفاعل أو تحرك إيجابي من قبل الحكومة أو باقي السلطات”.
ومع رواج البيان عبر المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي بدأت التكهنات حول من يقف وراء هذه الدعوة للتظاهر، حيث لم يستبعد البعض أن يكون رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر الذي يعاني التهميش ويبحث عن فرصة مناسبة لاستقطاب الأضواء والعودة إلى قلب الحياة السياسية في العراق، خصوصا وأن البيان المذكور حمل بعض ملامح الخطاب السياسي الصدري.