نور مهنا مطرب سوري من عصر الكبار

مطرب سوري من العيار الثمين صوته يملأ المسارح ويشنف الآذن، ويمطر الحضور بالطرب والحب.
السبت 2020/08/22
آخر حرّاس القدود والموشحات

يعدّ الفن الغنائي الحلبي السوري من أشهر الأنواع الغنائية في العالم العربي، وهو طراز من الألوان الطربية الملتزمة بالقدود التي كانت طاغية على غيرها، والتي اشتهرت مدينة حلب بها من خلال الزوايا والتكايا الصوفية الهائمة بالحب الإلهي، قبل أن تنتقل إلى الغناء الغرامي البشري، فكان لتلك الأبعاد الروحية دور كبير في تطوير هذا الغناء الذي دخل كل بيت حلبي عبر جميع مناحي الحياة الحلبية.

وقد عرف العالم هذا الطرب الحلبي الذي كان طقسا محليا ضمن أسوار المدينة، على يد جيل من كبار المؤلفين الموسيقيين والمؤدين من أمثال الشيخ عمر البطش وحسن الحفار وأديب الدايخ وصباح فخري وشيخ الكار صبري مدلل.

أما الجيل الذي جاء بعد هؤلاء ومن بينهم شادي جميل وغيره، فقد كان كلما يحاول الخروج من نمط الطرب، سرعان ما يعود إليه، لأنه مهارة يصعب على الفنان تجاهلها بعد إتقانها والتولّع بها، ومن أهم مطربي هذا الفن السوري الحلبي نور مهنا الذي يؤثث شخصيته الطربية بأغاني السلطنة التي يندمج معها الحاضرون، ويذكر له الجمهور الكثير منها ويغنيها معه، مثل ”ابعثلي جواب“ و“يا شادي الألحان“ و“لعل وعسى“ و“رق الزمان“ وبالطبع ”يا مال الشام“. وكثيرا ما تترافق وصلاته بالموشحات والقدود الحلبية والمواويل السورية المنسجمة مع الأداء الرائع الذي يبرز إمكاناته الصوتية التي جعلت الجمهور يرغب دائما في الاستماع إلى التراث العربي بصوته، مسجلا رصيدا خاصا وتراثيا يملك الكثير منه، وكذلك الجديد الذي يسعى إلى تقديمه في كل حفلاته.

اللغة العربية والآلاتية

قوة شخصيته تعزز من حضوره المسرحي على المنصة، ولهذا أسباب لا يعلمها إلا من درس الطرب الحلبي وتلقّاه من معلميه الكبار، فالوقفة أمام الجمهور أقرب إلى الوقفة أمام شيخ الطريقة بالنسبة إلى الصوفي.
قوة شخصيته تعزز من حضوره المسرحي على المنصة، ولهذا أسباب لا يعلمها إلا من درس الطرب الحلبي وتلقّاه من معلميه الكبار، فالوقفة أمام الجمهور أقرب إلى الوقفة أمام شيخ الطريقة بالنسبة إلى الصوفي.

علاقة مهنا المباشرة مع الجمهور من خلال الحفلات التي يحييها على المسارح الأثرية وفي الصالات الرياضية المغلقة، تبدو فرصة هامة لمراقبة ثقافة الجمهور حيال الطرب العربي الأصيل، فجمهور مهنا يقدّم فكرة مختلفة عما يروّج له حاليا من نفور للأذن العربية من الغناء الطربي وتوجهه نحو الإيقاع وحده.

ونادرا ما نجد مطربا أمتع الجمهور بشكل مباشر مثلما يفعل مهنا حيث يصل الجمهور إلى ذروة تفاعله معه أثناء الأداء في حفلاته التي تمتد لقرابة الساعتين، وفي حفل له بالملعب البلدي بقصر هلال بولاية المنسيتر في مهرجان النسيج بتونس قبل عامين، ردد الجمهور معه، وكأنه كورال تابع للفرقة الموسيقية. وشهد تفاعل الجمهور مع مهنا على مسرح الحمامات تفاعلا واسعا أعاد الاعتبار للأغنية الطربية.

في أكثر من حفل لمهنا، يسارع إلى التواجد مبكرا بين الموسيقيين للاطمئنان على انتظام عمل الفرقة، ودوزنة الآلات وجاهزية العازفين. ليصنع تناغما من نوع آخر قبل بدء الحفل، لا أثناءه فقط.

وقد لعب إتقانه للغة العربية الفصحى بمخارج حروف صحيحة، دورا كبيرا في نجاحه، ولكنه لا يؤديها بما يثقلها، بل بما يجعلها أقرب إلى العامية، وهو ما حبّب الجمهور في موشحاته وأغانية. لذلك يوصف بأنه ”المطرب القادر على الأداء بكل أشكال التفخيم“ مقدّما الجملة الغنائية القادرة على الوصول إلى الجمهور بكل سلاسة، وتلك التي تمنح كل حرف وكل كلمة مكانها المناسب في السياق. وتعزز قوة شخصيته من حضوره المسرحي على المنصة، ولهذا أسباب لا يعلمها إلا من درس الطرب الحلبي وتلقّاه من معلميه الكبار، فالوقفة أمام الجمهور أقرب إلى الوقفة أمام شيخ الطريقة بالنسبة إلى الصوفي، تغلّفها التقاليد والاحترام وينظمها التأهب والغرق في اللحن.

  الطرب الحلبي الذي يعرفه العالم اليوم، كان طقسا صوفياً محليا محصورا ضمن أسوار مدينة حلب القديمة، ثم انتشر على يد كبار المؤلفين الموسيقيين والمؤدين من أبنائها.
  الطرب الحلبي الذي يعرفه العالم اليوم، كان طقسا صوفياً محليا محصورا ضمن أسوار مدينة حلب القديمة، ثم انتشر على يد كبار المؤلفين الموسيقيين والمؤدين من أبنائها.

أما حركته على المسرح فتظهر مدى تأثير ذلك الحضور بحيث يوصل كلمات أغنيته لتكون جزءا من انسجام الجمهور معه، وكأنه يلامس شغاف المتلقي القادر على الإصغاء له في العديد من أغانيه الطربية الحلبية والشرقية، وكأنه يستعيد حضور عمالقة الفن الشرقي المصري من أمثال أم كلثوم وفائزة أحمد، ومحمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ.

عادة ما يتجنب المطرب صاحب الاسم المكرس والشهير، أداء أغنيات لمطربين آخرين، كي لا يتهم بأنه يسرق من رصيدهم. لكن مهنا لا يكترث لذلك، بل يحرص على تقديم الأغاني الخالدة الراسخة في الذاكرة الفنية العربية، كي يبقيها حية بين الناس، وفاء منه للكبار. وكثيرا ما فعل هذا في حفلاته التي بقيت الصحافة تشير إليها وتذكرها طويلا، مثل حفله على مسرح الظفرة بالمجمع الثقافي في الإمارات العربية المتحدة، الذي حضره جمهور كبير ضمن برنامج «أنغام من الشرق» والذي كانت تنظمه هيئة أبوظبي للثقافة والتراث باستضافة أحد نجوم الفن العربي في الخميس الأخير من كل شهر. وحينها قدّم مهنا قصيدة الشاعر مانع سعيد العتيبة ”كل شيء فيك يغري، ليل شعري صبح فجر، ورد خد حسن قد“.

لم يقتصر التزام مهنا على الفن وحده، بل إنه فاجأ الجمهور بالوقوف دقيقة صمت على روح الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي احتراما لشخصيته ودوره في تونس، مطالبا الجمهور بالقيام بذلك معه.

النقاء الطربي

لا يقلق مهنا من الموجات الفنية التي تعصف بالعالم العربي. يقول “إن الأصالة والطرب والتراث عوامل ما زالت تشكل أساسا متينا للفن عموما”، ويضيف “لا يمكن لمطرب أن يعبر عن موهبة حقيقية أمام الناس إلا إذا مرّ من خلال النقاء الطربي، وهو المنطلق الصحيح لتحسين الأداء والاستماع والصوت قبل أي شيء”. وينتقد مهنا أولئك الذين يرون أن الأصالة باتت “موضة قديمة”. ويقول متهكّما “ربما أصبحنا مثل العملة النادرة في الوطن العربي لكنها ثمينة جدا، ولها وزنها ولا يمكن لأحد ان يستخف بها. أما أنا فلا أستطيع أن أخرج من ثوبي، أنا أغني كل موال أجد نفسي قادرا على أدائه، وكل قصيدة جميلة أغنيها بصدق وجداني سواء كان الحضور كبيرا أو صغيرا”.

ولا يترك مناسبة يطلّ على جمهورها فيها إلا ويدافع من خلالها عن المقامات العربية. يقول “نحن نقدم المقامات العربية، سواء الموشحات العربية من الشام أو من مصر ونبحث عن الموسيقى الأندلسية لأنها مكملة للموسيقى العربية في عصرها الذهبي وازدهارها، ونبحث حتى عن الموسيقى التي هاجرت إلى الجمهوريات الإسلامية كما في تركيا، وكلها تعتبر جزءا من الموسيقى العربية، معتمدة على الآلات العربية سواء القانون أو الآلات الأخرى مثل العود، وكلها تجد لها مكانا في أمسياتنا الفنية وحفلاتنا”.

أمنية الحارس

مهنا الذي يعتد بصباح فخري وعمر البطش ينتقد من يرى أن الأصالة ”موضة قديمة“. ويقول متهكّما ”ربما أصبحنا مثل العملة النادرة، لكنها ثمينة جدا“
مهنا الذي يعتد بصباح فخري وعمر البطش ينتقد من يرى أن الأصالة ”موضة قديمة“. ويقول متهكّما ”ربما أصبحنا مثل العملة النادرة، لكنها ثمينة جدا“

ربما تكاد الساحة الفنية العربية تخلو من مطربين يلتزمون بهذا النمط من الغناء كما يفعل مهنا. وقد يكون مهنا الحارس الأخير للطرب. يقول عن نفسه إنه مدين للتراث الموسيقي العربي الذي ينهل منه دائما. ويضيف “عملت على تكوين رصيدي الخاص وأفخر بـ167 أغنية خاصة بي. لكنني أرى أنه من الضروري إحياء التراث حتى نقربه أكثر من الأجيال الجديدة لذلك من الضروري المساهمة في هذا المجهود”.

ويتمنى مهنا أن تُفرض رقابة صارمة على المحطات الإذاعية والتلفزيونية العربية، لأن الحوار الموسيقي، كما يقول، بدأ بين مختلف البلدان العربية منذ زمن بعيد من خلال تبادل زيارات الفنانين وانتقالهم من بلد إلى آخر، لكن هذا الحوار الفني الموسيقي ضعيف اليوم على الرغم من تحرك الحكومات ومساهمتها في هذا الباب لكن الإعلام هو الذي يسيطر على الأذواق وقد أصبح بعيدا من حضارتنا وثقافتنا. ويضيف ”أنا لست سعيدا بما تقدمه المحطات الخاصة التي أصبحت تسيء إلى بلداننا وأهلنا وتاريخنا، وأتمنى أن تفرض رقابة صارمة على المحطات الإذاعية الخاصة حتى لا تسيء لثقافتنا ولتربية أبنائنا باعتبارها تسيء إلى الذوق العام، أمّا المحطات العمومية فهي مازالت تحافظ على دورها على الرغم من أنّها مطالبة اليوم بتقريب وجهات النظر الفنية بحوارات عصرية، خاصة وأن النغمات الموسيقية للمقامات الشرقية ثرية جدّا ولم نطرقها كلّها إلى اليوم“.

جرأة مهنا في انتقاد تلك الظواهر تجاوزت السطح لتصل إلى اتهام المغني اللبناني الراحل ملحم بركات بسرقة التراث العربي، يقول ”حدّثوني عن السنباطي وكبار الموسيقيين أمّا هو (بركات) فأغانيه كلّها مسروقة من التراث“. وهو ينتقد أولئك المطربين الذين لا يشعرون بآلام شعوبهم، مذكّرا بأنه كان أول من دعا الجمهور إلى دقيقة صمت ترحما على الشهداء، وأنه قدّم أغنية “أم الشهيد” هدية لأمهات الشهداء، ولا يغادر مهنا هذا الملف قبل أن يوجه سهام النقد إلى الفنانة اللبنانية نجوى كرم التي قال عنها إنها وفي الوقت الذي كان بلدها يتعرّض للقصف، استمرت بالغناء في الملاهي.

أخيرا، ورغم غضبه من كل تلك الظواهر، ورغم آرائه الحادة، لا يمكن لأيّ متذوق ومتلقٍ يتفاعل مع القدود الحلبية والأداء الخاص بالغناء الحلبي إلا أن يضع نور مهنا في مكانه اللائق، إذ أن صوته من العيار الثمين الذي يملأ المسارح ويشنف الآذن، ويمطر الحضور بالطرب والحب.

12