نوري الجراح يكتب سردية شعرية مضادة بلغة الملاحم

"ألواح أورفيوس".. مختارات من تجربة شعرية متعددة الروافد.
الأحد 2024/02/11
الشاعر أورفيوس معاصر

يحتاج المرء إلى أكثر من حياة ليكون شاعرا، هذه قناعة تخرج بها من قراءتك لتجربة الشاعر السوري نوري الجراح، الذي فتح قصيدته للأساطير والتاريخ والفلسفة والملاحم والفنون، ليعيد كتابة تاريخ مضاد لما تكرسه المؤسسات الرسمية من تواريخ زائفة أو هي جامدة لا تكشف عن حقيقة ما خلف أقنعتها. ومؤخرا قدمت الباحثة المصرية ناهد راحيل مختارات شعرية جديدة للشاعر في رصد لتجربة من أهم التجارب الشعرية العربية اليوم.

القاهرة - صدرت عن “دار الشروق” في القاهرة مؤخرا مختارات شعرية هي الثانية التي تصدر في القاهرة للشاعر نوري الجراح بعد مختارات قام بها الناقد والأكاديمي خلدون الشمعة في 2009، تحت عنوان “رسائل أوديسيوس”، وأشرف على إصدارها الروائي الراحل إبراهيم أصلان في سلسلة “إبداعات عربية”.

المختارات الجديدة جمعتها وقدمت لها الباحثة والأكاديمية المصرية ناهد راحيل، وأعطتها عنوان “ألواح أورفيوس”، وضمت قصائد من مجموعات الشاعر: “الصبي” ، “مجاراة الصوت”، “كأس سوداء”، “صعود أبريل”، “حدائق هاملت”، “طريق دمشق”، “الحديقة الفارسية”، “يوم قابيل والأيام السبعة”، “قارب إلى لسبوس”، “نهر على صليب”، “لا حرب في طروادة”، “ما بعد القصيدة”.

هوية شعرية

في مستهل الوقوف على أجزاء من مقدمة الباحثة، نسوق هنا ما عللت به اختيارها للعنوان الذي أعطته للمجموع الشعري المختار، إذ تقول راحيل “جاء اختيار عنوان المختارات ‘ألواح أورفيوس’ باعتباره عنوانا تجميعيا يحيل إلى المضمون العام لقصائد الجراح، فأورفيوس، كما هو معروف، شخصية أسطورية من الميثولوجيا الإغريقية، وهو موسيقي وكاتب وعاشق عُرف برحلاته البحرية وقدراته السحرية الخارقة، مما جعله يجذب الجميع إلى ألحانه، ومن هنا اعتبرناه الوجه المناسب للجراح ليتوحد عبره مع أناه داخل النص الشعري ويشير إلى إمكانية تفاعل تجربة أورفيوس وتداخلها مع تجربة الجراح”.

ورغم أن العنوان مستمد من عنوان إحدى قصائد الشاعر الواردة في مجموعته الشعرية “حدائق هاملت”، فإن الغرض منه وفق راحيل ألا يحيل العنوان إلى تلك القصيدة بعينها، بل يحيل إلى تجربة الشاعر/ أورفيوس المعاصر الذي يعزف على قيثارة بلا أوتار- بتعبير إيهاب حسن في مقدمة كتابه “تقطيع أوصال أورفيوس”، ومن ثم يشير إلى حالة التشظي التي تكفلها روح الأسطورة ورحلة البحث الدائمة عن الذات والوجود.

ب

تعتقد راحيل أن “الشعرية لدى الجراح هي في الأساس شعرية وجود، أو تأسيس للوجود بواسطة الشعر، متخذة عددا من المدارات جاءت باعتبارها تنويعات لهذا الوجود، سواء عن طريق عرض التجربة الشخصية والتخييل بالذات، أو استلهام الشخصيات التراثية والتقنع بها، أو توظيف المعطيات الدرامية التي من شأنها أن تعلي من حساسية القارئ تجاه تجربة الشاعر الذاتية، أو استثمار مفهوم الرحلة  الملحمي الذي ناسب تجربة النزوح ليتقاطع الواقعي المعاصر مع الأسطوري الماضي”.

وترى أنه رغم الاهتمام بالمكان كفضاء تتعين الذات داخله، فإن شعرية الجراح تتحدد كذلك في تقويض سلطة المكان بمعنى الانغلاق، حيث توجد حدود قصيدة الجراح على امتداد المكان السوري وجغرافية المتوسط، فهي لا تنمو خارجه رغم وجود الشاعر خارج المكان. ويلعب المنفى دورا رئيسا في تشكيل المكان الشعري لديه؛ فينفتح المكان في شعره على ثنائية الوطن والمنفى، مع غلبة أماكن الارتحال في نصوصه الشعرية بسبب حالة الشتات القسري وتعدد المنافي.

وتبين راحيل أنه إذا استعرنا مقولات إدوارد سعيد عن المنفى وطبقناها على تجربة الجراح الخاصة، نجد أن المنفى قد سمح له بتبني هوية الهجين وقبول اختلاف الثقافات؛ فكما اهتم الجراح ببيان ميزة أن يكون الشاعر متوسطيا، اهتم كذلك ببيان أثر المنفى على تعريف هويته وعلى تأسيس خطاب شعري يتجاوز الاصطلاحات الغربية والعربية، ويسود فيه الإحساس بالغربة والقلق والرغبة في الخروج عن التقاليد. فمثل سعيد، نجده يخرج المنفى من دائرته الجغرافية إلى دلالته الرمزية، على اعتبار أن المنفيّ ليس هو الشخص الذي يعبر الحدود الجغرافية فقط، بل هو من يعبر الحدود الفكرية والثقافية واللغوية، وهو المؤهل للانفتاح على الإرث الثقافي بكل تنوعه واختلافه.

لذلك يعرّف الجراح نفسه بأنه “شاعر متوسطي يكتب بالعربية.. منفيّ معلق بين عالمين، عالم لغته الأولى في صقع، وعالم الأرض التي لجأ إليها في صقع آخر، كما عُلق بروميثيوس عند شق الأخدود عقابا له على سرقة النار من الآلهة، وعلق المسيح السوري على صليب عقابا له على مناوأته لصيارفة روما وسدنة العبودية، ليكون فداء لفكرة المحبة بوصفها الحرية”.

وترى الباحثة أن “الجراح يقدم عبر مسيرته سردية شعرية مضادة تمثل الذات في صورتها الحقيقية، يواجه بها الخطاب الرسمي الذي عادة ما يمتلك طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد أنواع الخطابات الأخرى الممكنة، لذلك يعمد الجراح إلى استعادة الدور الحضاري للشرق في الحضارة الإنسانية وتشكيل الهويات المفقودة وإعادة بنائها بعيدا عن سيرورات سوء التعرف التاريخية”.

شعرية نوري الجراح

الجراح يعرّف نفسه بأنه “شاعر متوسطي يكتب بالعربية.. منفيّ معلق بين عالمين، عالم لغته الأولى في صقع، وعالم الأرض التي لجأ إليها في صقع آخر"

ترى راحيل أن القناع الذي يستعمله الشاعر هو “الحيلة التي لجأ إليها الجراح ليتوراى خلفها؛ حيث ينسحب بأناه الخاصة، ليخلي مساحته لـ’أنا’ أخرى، يظل على مبعدة منها ظاهريا أو أدائيا، قد يتطابق معها حد التلاشي الصوتي والوجودي والنحوي في هيئة النص وتشكله النهائي، وقد يأتي بها باعتبارها أداة لعرض أفكاره ورؤاه الخاصة، أو بكونها أحد طرفي حوار يفيد في خلق المفارقات الدرامية”.

ونجده يلجأ إلى توظيف شخصيات ميثولوجية كأقنعة ونماذج مطابقة له، يحيل عليها أفعاله ويحملها بأفكاره الخاصة عن القضايا التي تشغله، كإعادة الخلق بعد الفناء في قصيدته “موت نرسيس” التي جاءت في مجموعته الشعرية “صعود أبريل” (1990 – 1995): سأُحبُّ حياتي، لم تكن إلا هواء/ أحبُّ صورتي في صورٍ/ ويدي وهي تغمرُ يداً،/ والظُّلمة التي ملأتُ بها كفِّي/ سوف أنظُرها كما لو كنتُ أنظرُ اللآلئ.

إلى جانب بعض الشخصيات المستمدة من مصادر الميثولوجيا المختلفة مثل: بروميثيوس وإيكاروس وأوديبوس وأورفيوس وسيزيف، وكلها أقنعة مثلت لديه معاني المعرفة والتحرر والتمرد والمعاناة والارتحال.

وهنا تكمن أهمية التقنع في التحول من الذات إلى الآخر، من “أنا” الشاعر الواضحة إلى ما تتخفى وراءه من أنوات مغايرة، اختارها الشاعر عن وعي إما لشعوره بتطابق تجربتها مع تجربته الخاصة، أو لتطابق خواص ذواتها مع خواص الشاعر الحقيقية، أو لنقض بطولتها الوهمية التي تتضاءل أمام الواقع المعاصر المأساوي والتي لا تتناسب مع الوضعية التاريخية المعيشة.

تطالعنا قصيدة “رسائل أوديسيوس” من المجموعة الشعرية “طريق دمشق” (1990 – 1997) بنقض واضح للملحمة الهوميرية وبمخالفة شخصية أوديسيوس البطولية، التي تختار التنازل عن البطولة وتنفيها عن نفسها، فيتخفى الشاعر وراء قناع أوديسيوس ويفرغه، على مدار مقاطع القصيدة، من مقومات شخصيته كما وردت في الملحمة المشهورة، ويتوحد معه فقط في المقطع الأخير من القصيدة:

أنا لستُ أوديسيوس حتى يكون لي معجبون/ قرؤوا قصتي، وجاؤوا يعزّونني/ لا/ ولستُ أوديسيوس/ لتكون لي أختٌ/ تُطرِّزُ/ على الماكِنة/ شالاً، أو قميصاً/ لشقيقها الغائب.../ أنا لستُ أوديسيوس/ وهؤلاء الذين صُرِعوا وتَخَبَّطوا في فِناء منزلي/ صَرَعَهُمُ القَدَرُ./ مَنْ جاءَ بيتي في عَرَبَةٍ/ مَنْ جاءَ خِفيةً/ وعندما لمْ أكُنْ/ مَنْ فَتَحَ الخزائنَ وقَرأَ رسائلي التي أرسلتُها لنفسي/ أنا/ أوديسيوس/ المَيْتُ في باخرة.

ناهد راحيل: الشعرية لدى الجراح هي في الأساس شعرية وجود، أو تأسيس للوجود بواسطة الشعر، متخذة عددا من المدارات
ناهد راحيل: الشعرية لدى الجراح هي في الأساس شعرية وجود، أو تأسيس للوجود بواسطة الشعر، متخذة عددا من المدارات

وتلك الثنائية الخاصة بالإخفاء التي يكفلها التقنع، والكشف الذي يتم بإزاحة القناع، تجعل المتلقي يتردد أمام شخصية مرسل النص وكاتبه، وتصبح عملية تأويل القارئ للنص بمثابة محاولات نزع ذلك القناع أو صدعه بهدف كشف الوجه الحقيقي الذي يتخفى وراءه مرسله.

وتبين راحيل أن تجربة النزوح المكاني جعلت الجراح يميل إلى فكرة الانقسام الذاتي، حيث مثّل ذاته عبر رؤيتها من الخارج وجعلها موضوعا للتأمل مستخدما رموزا أو نماذج تسمح له بموضوعية في الخطاب، ثم انتقل إلى تمثيل ذاته عبر الأقنعة مستخدما نمط الكتابة من الداخل الذي ميز كتابته في أغلب مراحل مسيرته شعرية، موظفا أساليب مسرحية ومعطيات درامية تحددت في المونولوج الدرامي والمناجاة، ولعل قصيدة “أقنعة هاملت” تعد أصدق مثال على ذلك.

وتعتبر الباحثة أن “قصيدة الجراح في مجملها ذات بنية درامية؛ حيث كتب المطولات الشعرية ذات الفضاء الملحمي مستعينا بالأساليب والمعطيات الدرامية التي من شأنها التصعيد من حساسية المتلقي تجاه المواقف والأفكار المعروضة أمامه. وقد أفاد الشاعر من العناصر الدرامية في البناء المعماري المتكامل، كما أفاد من مظاهر بناء المسرحية في صياغة المشاهد الدرامية واستخدام الافتتاحيات الدرامية، وأولى تلك العناصر الدرامية الصراع المرتبط بالقضية السورية، وقد جسد عبره الواقع السوري المأساوي في توتر درامي متصاعد بصورة ملحمية تبدو وكأنها تأهيل للذاكرة الجمعية التي يحاول الآخر طمس ملامحها وفاعليتها”.

ولعل هذه السمة الدرامية الموضوعية هي التي جعلت الشاعر المعاصر يدرك أهمية تعدد الشخصيات – تراثية كانت أو خيالية – ليجسد من خلالها المواقف المختلفة ويبرز التناقض والتقابل أو الانسجام والتوافق بينها، ويسجل ما يدور من حوار بين بعضها البعض، أو بينها وبين الشاعر بوصفه واحدا من الشخصيات المتعددة في القصيدة.

كما تعد بنية النشيد، باعتبارها نمطا تعبيريا وظاهرة كتابية واضحة في تجربة الشاعر، مثالا لتعدد الأصوات كذلك؛ وكأننا أمام بنيتين شعريتين لصوتين مختلفين: صوت الحدث وصوت المعلق على هذا الحدث، قد يحيل كل منهما المتلقي إلى زمنين مغايرين، فغالبا ما يكون زمن النشيد هو الزمن الحاضر، خلافا لزمن النص نفسه الذي يتحدد في الزمن الماضي.

وتنتج بعض قصائد الجراح حضورا لما يمكن تسميته بـ”أنا بديلة” تشبهه وتكون المقصودة من القول الشعري بأكمله وربما مرسلته في بعض الأحيان، وقد تتشابه تلك التقنية مع وسيلة التقنع لكن الفرق بينهما يتضح في أن القناع يجب أن يكون شخصية لها مرجعية في الموروث الثقافي.

وتلاحظ الباحثة أن من التقنيات التي عمد إليها الجراح لإنتاج تلك “الأنا” البديلة تقنية المرآة، التي تسمح بانقسام الذات الشاعرة على نفسها والعدول عن مخاطبة الذات التي تكلمها، وتطالعنا المجموعة الشعرية “القصيدة، والقصيدة في المرآة” (1989 – 1993) بتوظيف تلك التقنية بدءا من الجهاز العنواني نفسه، وكأننا أمام نصين يُسائل كل منهما الآخر، وذاتين تحاور كل منهما الأخرى في ظرف من المكاشفة، ومن خلال تصارع النصين/الكاتبين ينمو بناء القصيدة وتبرز دراميتها.

وتتباين، في رأيها، وظائف تلك التقنية باختلاف وعي الذات بنفسها ما بين التمرد عليها، أو الهروب من ضغوط واقع لا تتحمله، أو مساءلتها ومحاسبتها، أو تأملها بشكل يسمح من زيادة المعرفة والإدراك بكينونتها، وبالتالي تقبلها أو التنافر منها سواء في حضورها الذاتي أو حضورها العلائقي كطرف في علاقة مع غيرها، ومع كل هذا التباين يثبت دائما حضور البعد المعرفي؛ أي حضور الوعي الذي يتأمل صورته في المرآة، وحضور الذات التي تحاور الصورة أو الظل أو الشبح.

بعض قصائد الجراح تنتج حضورا لما يمكن تسميته بـ”أنا بديلة” تشبهه وتكون المقصودة من القول الشعري بأكمله وربما مرسلته في بعض الأحيان

وتذهب راحيل إلى أن “الحوار – بشقيه الخارجي والداخلي – عنصر أساسي في تشكيل القصيدة لدى نوري الجراح، وقد أدى دورا بارزا في الإعلاء من درامية النص الشعري، وساعد على الكشف عن طبيعة الشخصيات وتطور الحدث الدرامي، ومن هنا انتفت وظيفته كعامل زخرفي وولد الإحساس بالموضوعية، وقد مال أيضا إلى توظيف الحوار الفردي بشكل موسع واعتمد في ذلك على التكثيف والموضوعية والمواجهة الصوتية، مما أتاح للمتلقي أن يسمع الصوت الخفي الذي يدور في أعماقه”.

إلى جانب ذلك كله، يوظف الجراح ملمحا من ملامح المسرح الأرسطي القديم يتمثل في استخدام الجوقة، وهي من أسس التراجيديا الإغريقية. فاستعارها لتنهض بما تنهض به في المسرحية، حيث التعليق على بعض الأحداث في القصيدة وشرح بعضها الآخر، لتصبح أداة يعبر بها الشاعر عن آرائه وتوجهاته. وإن لم يوظف الجوقة باسمها في أي من قصائده، إنما قام بتوظيفها عن طريق الدور الذي تقوم به.

ونيمم مع قراءة راحيل جهة فكرة السفر في المكان لدى الشاعر وهي ترى أن “شعرية النزوع الدرامي في بنية القصيدة لدى الجراح إنما ترتبط بالجانب الرحَلي، فالنص الرحلي ينهض على صورة واقع يضمُر بنيات متعددة وأصواتا مشبعة بأسرار ذاتية وأخرى غيرية، فبالرغم من أن الرحلة تشكيل لنص ذاتي فإنها تتعرض كذلك للآخر ولتاريخ المكان وجغرافيته”.

ويتناسب هذا الملمح – كما سبق القول – مع النفس الملحمي لبنية القصيدة لدى الجراح، حيث تؤسس تيمة الارتحال عنصرا أساسيا في الملاحم في أشكالها الكلاسيكية الأولى: الإلياذة والأوديسة وملحمة جلجامش والإنيادة والشاهنامة. فقد حفلت الميثولوجيا بحكايات تتموضع فيها الرحلة بشكل أساسي بين الخارق والعجيب.

هناك عناصر تظهر في النص الرحلي مثل: السفر والعبور والمعرفة والمتعة والدائرية، نجدها تتواتر كذلك في بنية القصيدة – التغريبة السورية لدى الجراح؛ فالسفر هو التحقق الفعلي أو الرمزي للارتحال، ويتشكل العبور خلال البحث عبر الأزمنة، وتتراوح المعرفة بين الحقائق والخرافات وبين المطلق والنسبي لأنها تقَدم باعتبارها حقائق حينا واحتمالات حينا آخر. ويبتعد النص الرحلي من المفهوم الخطي المبسط ويقترب من الدائرة، فالرحلة تنجز خطيا على المستوى الظاهري، لكنها تحقق سفرا دائريا لأنها تنتهي عند نقطة البداية، وتلتحم بين البداية والنهاية.

وتتمتع النصوص الملحمية الرحلية بخاصية قدرتها على تمثل عصرها بشكل من الأشكال، وكذلك مطولات الجراح الملحمية، عامدا إلى ما يعرف باسم الملحمة الوهمية أو البطولة الزائفة، وهي شكل من أشكال نقض الأسلوب البطولي المميز للملاحم الكلاسيكية ونفي له، في إشارة إلى الطابع غير البطولي للعصر الحديث والسخرية من البطولة المستعادة نفسها في مواجهة المأساة، حيث يبدأ الشاعر ملحمته الوهمية باستدعاء جوانب الملحمة الكلاسيكية وشخصياتها المركزية وتدخلاتها الخارقة والأوصاف التفصيلية للبطولة بهدف خلق معارضة نصية واضحة بين الذاتي والأسطوري.

الجراح يقدم عبر مسيرته سردية شعرية مضادة تمثل الذات في صورتها الحقيقية، يواجه بها الخطاب الرسمي الذي عادة ما يمتلك طبيعة سلطوية وإقصائية تمارس التهميش ضد أنواع الخطابات الأخرى الممكنة

وتنتبه الباحثة إلى أن “افتتاحية قصيدة ‘كلمات هوميروس الأخيرة’ تطالعنا بتقويض التراث الملمحي عبر نفي وجود حرب في طراودة ومحو الأسطورة من التاريخ، يلحقها اعتذار من هوميروس في كلماته الأخيرة لأبطاله الذين خلدهم في ملحمته الشهيرة، لتكف طروادة عن ممارسة حضورها الأسطوري في التاريخ القديم، وتتنازل الإلياذة عن أداء مهمتها في تسجيل بطولات شخصياتها:

لَا حَرْبَ فِي طُرْوَادَة،/ لَا بَحْرَ وَلَا مَرَاكِبَ وَلَا سَلَالِمَ عَلَى الْأَسْوَارْ،/ لَا حِصَانَ خَشَبِيَّاً، وَلَا جُنُودَاً يَخْتَبِئُون فِي خَشَبِ الْحصَانْ./ سَأَعْتَذِرُ لَكُم يَا أَبْطَالِيَ الصَّرْعَى:/ “آخِيلْ” بِكَعْبِهِ الْمُجَنَّحِ؛/ “هِكْتُورْ” بِصَدْرِهِ الطُّرْوَادِيِّ الْعَرِيضْ؛/ وَأَنْتَ يَا “أَغَامِمْنُونْ” بِلِحْيَتِكَ الْبَيضَاء/ وَسَيْفِكَ الْمُسَلَّطِ عَلَى رِقاب الْبًحَّارَةِ الهَارِبِينَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ.

معارضة الملحمة الهوميرية ورحلة أوديسيوس هي السردية المضادة التي يعتمدها الجراح لوصف الملحمة السورية في مجموعته “لا حرب في طروادة”، متقنعا بعدد من الشخصيات الأسطورية الأخرى التي تدور جميعها في بنية دائرية تراجيدية وتعود إلى نقطة البداية.

وعبر النص الرحلي ومعارضة الملاحم الأسطورية، يكتب الجراح التاريخ الجديد، ويعيد تشكيل سردية مضادة ترد على السردية التاريخية الكبرى، التي هي باختصار حكايات كونية يفترض أنها مطلقة وقصوى، فتفككها وتنقضها.

معارضة – تاريخية/ نصية – أخرى يسوقها الجراح ليضيف معادلا موضوعيا آخر للتغريبة السورية، عبر تعالق قصيدته “الغزاة يولدون في المدينة” (1990 – 2012) نصيا مع قصيدة كفافيس “في انتظار البرابرة”، التي تفاجئنا بهوميرتها: الغُزاةُ الذينَ انتظرتَهُمُ خارجَ قصيدتكَ/ كانوا وراءَك في المدينةِ:/ الطَّحانُ اللصُّ، وسارِقُ العَجَلةِ من المَعْبَدِ،/ التاجرُ اللاعبُ بالنقودِ، القاضي المُرتشي، المحامي المصابُ بالكَلَبِ/ العسكريُّ صاحبُ النياشين،/  والجنديُّ الزاغبُ في سرير المُتعة.

وتخلص ناهد راحيل هنا إلى أن “استدعاء الجراح للنص الغائب ومحاورته بقصد أن يشكل الحوار قراءة نقدية واعية ويخلق سياقا دلاليا جديدا، قد يمنح النص الغائب تفسيرات مختلفة ويظهره بشكل مغاير، فيوجه القارئ لمنظومة مختلفة من القراءة تجعله يختار بين القراءة المنفردة للنص الجديد دون علاقة بالنص السابق، والقراءة الموازية للنصين معا، والقراءة التبادلية بين النصين”.

المختارات تحاول التمثيل لمراحل شعرية نوري الجراح بشكل لم يغفل إنتاجاته الشعرية الأولى خلافا لما سبقها من مختارات

ومن الالتفاتات الذكية للباحثة هو إشارتها إلى أن الشاعر “عاد، بعد ثلاثين عاما، ليعارض معارضته في قصيدة ‘وصول البرابرة’ (2021) في إطار نقض السردية الكبرى وتكذيبها، وإعادة كتابة التاريخ، فمثلما يقوم بتقويض تراث ملحمي هائل في ملحمة هوميروس لتكف طروادة عن ممارسة حضورها الأسطوري، تقضي القصيدة على البرابرة وتمحي انتصارهم التاريخي وتقوضه، فالانتصار لن يتحقق في غياب المنهزمين: والمؤسف أكثر أنهم بلغوا بطلائعهم قلب المدينة، ولم ترتفع ملاءة بيضاء/ على حانوت أو بيت،/ لم يركع جريح،/ ولم تهتف امرأة: احرقوا المدينة، ولا تدنسوا العذراوات،/ لا شكوى/ لا بكاء/ لا توسلات!/  فقط، صمت مريب لا يشبهه شيء سوى زيارة مقبرة في جبل./ والسؤال الآن/ ماذا يفعل البرابرة بمدينة تركت مشرعة الأبواب ولا يوجد فيها سوى طفل/  يلهو بعجلة؟

ووجود هذا الملمح الرحلي في البنية الشعرية للجراح يستدعي معه بالضرورة وجود أشكال تعبيرية أخرى كالسيرة الذاتية واليوميات والتاريخ والجغرافيا والسجلات الاجتماعية وما يعرف باسم ‘الخانة الفارغة’ – بتعبير شعيب حليفي – وهي كل الأشكال التخييلية الأخرى كالأحلام والعجائبية والاستيهامات التي يتفاوت حضورها حسب متطلبات الرحلة، والتي تعتمل، ظاهرة أو خفية، في البنية العميقة للنص الرحلي”.

وتضيف الباحثة “تفرعت أشكال الحلم في النص الرحلي وارتبطت علائقه بمكوناته النصية من زمان ومكان وشخوص مستعادة، فبنية الحلم، مثل أي بنية نصية تحفل بمكونات تصوغ بناءها، فبنية الزمن تكون منشطرة غير أحادية بغير ترتيب زمني أو تسلسل منطقي، وتتصل بنية المكان بتيمة السفر حيث الانتقال بين الأمكنة بحثا عن شيء ما ولأهداف محددة”.

وقد تعددت، في رأيها، صيغ حضور الحلم في النص الرحلي – في بنتيه الكبرى – لدى الجراح، سواء على مستوى الصياغة أو الدلالة. وقد يأتي الحلم مؤطرا ببعض الإشارات الفعلية، وقد لا تكون هناك إشارات تدل عليه مباشرة، ليشكل الحلم لدى الجراح وسيلة مثلى للبوح غالبا ما تقترن بالمونولوج، حيث تحاور الذات الشاعرة نفسها متكئة على الحلم بوصفه منبعا للصورة الشعرية.

خصوصية التجربة

عبر النص الرحلي والدراما والأقنعة ومعارضة الملاحم الأسطورية يكتب الشاعر التاريخ الجديد ويعيد تشكيل سردية مضادة

في هذا الطواف مع أجزاء من المقدمة الضافية للمختارات، نخلص إلى ما خلصت إليه الباحثة ناهد راحيل من استعراضها النقدي، وطبيعة تعاملها مع التجربة الشعرية التي تصفها بأنها شعرية ما بعد حداثية متفردة ومتعددة الأوجه وذات انتماء متوسطي عميق.

 تقول راحيل “أخيرا ارتكزت شعرية الجراح على عناصر متعددة ليست بالضرورة متوافقة، فمن الميثولوجيا الإغريقية، كانت رؤيته التراجيدية لإعادة كتابة تاريخ ممتد ومتناقض، ومن الأساطير والملاحم والحكايات القديمة كان بناؤه الذي تميز بالكثافة وتعدد المصادر الثقافية، ومن الفلسفة بأصدائها اليونانية والإسلامية كانت مستويات التعبير عن جدلية الحياة والوجود، ومن التجريب الشعري، جاءت اللغة التي مزجت بين أنساق ثقافية مختلفة مستمدة من مفردات المكان/ المتوسط والمفردات القاموسية لتشكّل في النهاية خصوصية معجم نوري الجراح وخطابه الشعري، حيث التحرر من المنظور التقليدي للبلاغة والانفتاح، في بنية القصيدة وهيئتها، على تعدد الأصوات ووجهات النظر واستيعابها لتعيينات المكان وتحيينات الزمان والتسميات المتعددة”.

وتضيف “لقد حاولت هذه المختارات التمثيل لمراحل شعرية نوري الجراح بشكل لم يغفل إنتاجاته الشعرية الأولى خلافا لغالبية سابقاتها من مختارات، وباستثناء مطولاته الشعرية التي لا يتسع لها الفضاء الطباعي للمختارات، تم الاعتماد على أعماله الشعرية الكاملة منذ الديوان الأول ‘الصبي’ الذي نشر عام 1982، وحتى تلك القصائد المنفردة التي نشرت في مجلة ‘الجديد’ اللندنية في نهاية عام 2021، والتي عادت إلى ذلك ‘الصبي’ مرة أخرى في بنية دائرية ملحمية، وذلك حتى يقف المتلقي على مدارات شعرية قصيدة نوري الجراح في بنيتها الكبرى”.

وتقول “أتمنى أخيرا أن يجد المتلقي ما وجدته في هذا المشروع الشعري المتفرّد من استجابة لمنطق العصر التفكيكي ومتطلبات مرحلة ما بعد الحداثة من هدم لأفكار شمولية وأيديولوجيات ومعارف كبرى، ومن كفاءة لغوية أسلوبية وحساسية رؤيوية واضحة للقضايا الإنسانية، مما يؤهل تلك التجربة لتكون من أهم تجارب قصيدة النثر العربية أو القصيدة الحرة المفتوحة على الفنون المختلفة والروافد الثقافية المتعددة واللاجاهزية التعبيرية”.

10