نهاية فكر

يتمّ تداول بعض التعابير بنوع من التسليم بها، وكأنّها تضع نقطة النهاية وتختم الفكرة التي تعبّر عنها أو تشير إليها، ويكون التسليم مرادفا للعجز عن البحث أو تقبّل الأمر بصيغته من دون إعمال الفكر أو البحث عن بدائل أو إيراد تحفّظات بصيغة من الصيغ عليها.
يتكرّر في الأنباء تعبير نهاية صراع، أو نهاية فكر، أو نهاية ثورة، أو نهاية إعصار، وهنا يراد من المتلقّي أن يسلّم بما يسمع أو يقرأ، وكأنّه حقيقة مطلقة لا تقبل نقاشا أو جدالا، في حين أنّ الأمر لا يتعدّى توصيفا تسطيحيا لما لا يمكن البتّ به أو تأكيده بشكل قاطع.
لا ينتهي أي صراع بشكله المعهود، ولاسيما إذا كان دمويا وحربيا؛ نيران ومعارك واشتباكات واقتتال وتدمير، لأنّ الصراعات تتجدّد بطريقة أخرى أكثر شراسة ودموية، تفتح الباب على الانتقام، على مداواة الجراح، على ترميم الخراب، أي تظلّ فكرة متجدّدة وجمرة يمكن أن تستعر في أيّ وقت، بناء على ظروف خارجية أو داخلية، أو على تقاطع ظروف مختلفة.
وإذا ما قلنا إنّ فكر داعش انتهى مثلا، فمن المفترض أن يشير النبأ إلى القضاء المبرم على كيان إرهابي تحرّك في حيز جغرافي وسياسي، في حين أنّ الفكر يظلّ حيّا متنقّلا عابرا للحدود الجغرافية، ويمكن أن يتجسّد في أمكنة بعيدة، أو يتجلى بصيغ منفردة، وعلى أيدي أناس يوصفون بالذئاب المنفردة التي تتبنى الفكر الداعشي، وتضخّه بما هو كارثيّ، تحاول إنباته في بيئة غير بيئته، والتجنّي من خلاله على محيط لا يتقبّله، ويقع ضحيّة جنونه.
لربّما يحتجّ أديب تناول الفكر المتطرّف بالتفكيك في عمل أدبي له بأنّ كثيرا من الناس الذين يفترض بأنّ العمل مكتوب عنهم ومتوجّه إليهم لا يلتفتون إلى القراءة ولا يولون أي اعتبار للأدب والفكر، بل يزدرونهما، ويجدون فيهما مفاتيح للمصائب التي تغرقهم، لكن من المفارقة أنّ الابتعاد عن تعرية أوهام المتشدّدين يمنحهم هامشا أوسع للتمدّد والتأثيم.
ولا يخفى أنّ الفكر يُجابَه بالفكر، ومن الغرابة أن يقال إنّ فكرا ما انتهى، أو تمّ القضاء عليه، لأنّه ينبعث من جديد في بيئات جديدة، لأنّ أيّ فكر، مهما كان متطرّفا، لا يعدم سبل إقناع بعضهم به، ويمكن أن تكون المغالاة من أبرز سمات من يعتنقه، فمثلا كان هناك إسلاميون راديكاليون، أو أحزاب دينية متشدّدة قامت بتفريخ مَن بالغوا في تشدّدهم وجهاديّتهم -كالفكر القاعدي مثلا- وتنقّلوا من أرض جهاد إلى أرض أخرى، مكفّرين أسلافهم، ومغالين في عنفهم، مسكونين بأحقاد تاريخية وكأنّهم هاربون من كهوف التاريخ نفسه.. ثمّ كان الفكر الداعشيّ خطوة متقدّمة على سابقيه المتطرّفين، بحيث لفت إلى أنّ الاشتغال على القتال والمحاربة بالعدّة الحربية التقليدية يفتقر إلى المواجهة الفكرية والتراكم المعرفيّ.
من الدارج أنّ الأفكار المتطرّفة تجد بيئات الجهل والتخلّف مراتع مناسبة لها؛ تنتعش فيها، وتقود أتباعها كأنّهم قطعان، تعميهم بشعارات مضلّلة، تستغلّ الجهل والتخلّف لتأليبهم على آخرين تختصر فيهم كلّ الاستعداء والإجرام وتدفع إلى الفتك بهم بشتى السبل، ويكون الإيهام بأنّ فردوسا ما يقبع هناك في عالم غائب محجوب.