نقل المغرب لتراثه الأمازيغي من الشفهي إلى المكتوب أعطى ثماره

تدوين التراث الأمازيغي الشفهي سيمكن من توفير مادة غنية كانت محل تداول بين الأجيال دون أن تجد طريقها نحو التمظهر الكتابي.
الجمعة 2023/12/29
المغرب يواصل تعليم ثقافته الأمازيغية ونشرها

الرباط - قوّة الثقافة المغربية مرتبطة بتنوعها وباختلاف مشاربها، وهي رهينة بتكاملها وحركيّتها. هذا التنوّع والاختلاف والتكامل هي خصائص تمنح المغرب اليوم المناعة الكافية أمام مختلف الأساليب التي من شأنها أن تضعف الذاكرة المغربية.

وتبقى الثقافة الأمازيغية أحد المكونات الرئيسية للثقافة المغربية، وهي من العوامل التي تصنع المشهد الثقافي في المغرب، تكسب صوتها المتفرّد مع أصوات ثقافات العالم، وتشهد اهتماما متزايدا خاصة من حيث توثيقها ونشرها، وهو ما ظهرت نتائجه سريعا، من خلال انتشار أعمال أدبية وسينمائية وفنية أمازيغية هامة والمشاريع والمؤسسات التي تسعى إلى الحفاظ على اللغة الأمازيغية بما تختزنه من تراث عريق.

وعلى مدى قرون وحتى القرن التاسع عشر تميزت الثقافة الأمازيغية بالطابع الشفوي فأنقذ الفولكلور نظامها اللغوي بشكل كبير، كما كانت المرأة مركز هذه الثقافة الشفوية ومصدرها وموزّعها والقائم عليها لحمايتها من كل عوامل الاندثار، وإن نجحت في ذلك فإن التدوين يبقى الوسيلة الوحيدة التي تكفل حماية هذه الثقافة العريقة، وهو مسار انتهجه المغرب بشكل جدي وبإشراف رسمي، وقد بدأت ثماره تظهر.

المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يقوم بتجميع وتدوين مختلف تعابير الثقافة الأمازيغية والحفاظ عليها وحمايتها وضمان انتشارها
المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يقوم بتجميع وتدوين مختلف تعابير الثقافة الأمازيغية والحفاظ عليها وحمايتها وضمان انتشارها

وبات تدوين التراث الأمازيغي ونقله من وضعه الشفوي المتداول إلى المكتوب يحظيان بإقبال مكثّف من قبل الناطقين بهذه اللغة وغيرهم، مع الاهتمام بما ينشر على المستويات الإبداعية والإنتاج البحثي في مختلف فروعها المعرفية.

ويرجع جزء كبير من هذا الاهتمام إلى النهج الذي سار عليه المبدعون والأكاديميون بتدوين التراث الأمازيغي الشفهي وتحويله من المتداول التواصلي العادي إلى وثائق متاحة للجميع للاطلاع عليها والاستفادة من مضمونها المتنوع.

ويؤكد عدد من الباحثين في المجال الأمازيغي أن نقل التراث الأمازيغي الشفهي إلى المكتوب، سواء بحرف تيفيناغ أو باللغة العربية أو بغيرهما، أعطى ثماره من حيث الانتشار والتوثيق وتوفير مادة بحثية مهمة أتاحت للمهتمين إمكانية دراستها عن قرب.

ويبرز هؤلاء الباحثون أن الانتقال من الشفهي إلى الكتابي للتراث واللغة الأمازيغيين يتطلب دراية بمكنونات الإرث الثقافي المتداول على مستوى التواصل الجماعي والفردي، والكيفية التي يمكن بها توثيقه وجعله في متناول الجميع، من خلال الكتب والمؤلفات والدواوين الشعرية والأبحاث.

وبذل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في المغرب جهدا معتبرا في هذا المجال، وذلك في إطار مهامه المنصوص عليها في ظهير إحداثه حيث تؤكد المادة الثالثة منه أن من مهام المعهد “تجميع وتدوين مختلف تعابير الثقافة الأمازيغية والحفاظ عليها وحمايتها وضمان انتشارها”.

وفي هذا الصدد أكد الباحث في مركز الدراسات التاريخية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، المحفوظ أسمهري، أن من مهام هذه المؤسسة الثقافية التوثيق العلمي للتراث الأمازيغي بكل أصنافه، لاسيما من خلال الاعتماد على الرواية الشفهية.

وشدد أسمهري في تصريح له على أهمية إنقاذ التراث الشفهي الأمازيغي عن طريق تدوينه، وهو ما يمكّن من تحليله ودراسته بشكل علمي معمق.

تدوين التراث الأمازيغي ونقله من وضعه الشفوي المتداول إلى المكتوب يحظيان بإقبال مكثّف من قبل الناطقين باللغة الأمازيغية وغيرهم

وأبرز المتحدث في هذا الصدد الإسهام الكبير للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في توثيق عدد من التعابير الشفهية.

وإذا كانت اللغة الأمازيغية في معظمها محكية وتتناقل عبر التواصل المباشر بين الناطقين بها، فإن تدوين التراث الأمازيغي الشفهي سيمكن من توفير مادة غنية كانت محل تداول بين الأجيال دون أن تجد طريقها نحو التمظهر الكتابي. ولهذا يؤكد الباحثون في المجال الأمازيغي أنه من الممكن أن تمنح الكتابة فضاء توثيقيا للأكاديميين ومجالا خصبا للبحث والدراسة الجامعية المعمقة.

وعلى المستوى الأدبي اعتبر الحسين أموزاي، الباحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، في تصريح مماثل أن نقل الإبداع من الشفهي إلى الكتابي مكن من بروز جيل جديد من الشعراء أعطى نفسا جديدا للشعر الأمازيغي من خلال كتابته وتدوينه.

وأضاف أن الإمكانات التي تم توفيرها من أجل الرقي باللغة والثقافة الأمازيغيتين أعطت نفسا آخر للأعمال الأدبية التي رسخت مفهوما ومسارا جديدين للمتداول الشفهي كي يصبح مكتوبا من خلال إبداعات متنوعة.

وأبرز في هذا الإطار أن الأمر يتجاوز، بشكل كبير، “ما كنا نتصوره في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، حيث وصلنا اليوم إلى مستوى عال جدا من التراكم في الإبداعات الأدبية في ميادين الشعر والقصة والرواية الأمازيغية”.

هكذا إذن، مكنت كتابة الشعر الحديث والقصة والرواية الأمازيغية من تحقيق زخم كبير من الإبداعات والتجارب الأدبية الهامة، بشكل يتحول معه التراث المتداول شفاهيا إلى نص مدون ذي قيمة علمية رصينة، ويستجيب للمتطلبات الأكاديمية والتقنية الضرورية.

وإذا كانت الكتابة لها أبعاد معرفية وتاريخية ودور في الحفاظ على الموروث الثقافي والإبداعي الأمازيغي، فإن هناك أنماطا أخرى من الحفز يمكن الاعتماد عليها عبر الرقمنة التي أصبحت لها جاذبيتها التوثيقية الفعالة والسهلة.

13