"نقطة التحول".. حكاية مأساوية لصديقين في مهب الريح

هنالك تراكم في الواقعية وفي السرد سواء في القصة أو الرواية، وهذا التراكم محوره الإنسان الذي تطحنه الحياة وتغير مسار حياته ولا تحقق له أهدافه بسهولة، ولقد شهدنا ذلك مرارا في تجارب السينما الواقعية سواء الروسية أو الإيطالية أو غيرهما. وهو ما نجده في فيلم “نقطة تحول”.
الإنسان الذي يمضي يومياته وهو يتشبث بالبقاء بأي طريقة ممكنة اختلفت من حوله الأسباب والدوافع وقوى المجتمع، وما لا قوة عنده لمواجهته.
هذا ما يضعنا في سياقه فيلم “نقطة تحول” للمخرج الإيطالي ريكاردو انتونارولي، الذي يقدم دراما لشخصيات عابرة يمكن أن تكون قد شاهدت مثيلا لها في أفلام أخرى، لكنها تبقى مدهشة وتبقى تشعر أنك تريد أن تقترب من عالمها أكثر وأن تتفاعل معها أكثر وتكتشف معها دهاليز الحياة وكيفية الخروج من المغامرة.
شخصيتان من عالمين

المخرج اشتغل بمهارة وحرفية عالية وهو يقدم بعفوية وبساطة شخصيتين طحنتهما الحياة فضاعت بوصلة كل منهما
يعيش لودفيكو (الممثل براندوباجيتو) معزولا عما حوله، ليس ناجحا في دراسته الجامعية، ولكنه يجد نفسه في رسوم الكوميكس التي يكثر من رسمها لوحده، حتى اللحظة التي يقع فيها التحول الجذري في حياته، عندما يجد نفسه فجأة تحت تهديد السلاح من شخص مجهول يجبره على أن يحتمي في شقته التي يسكن فيها وحيدا.
لم يكن ذلك المسلح سوى جاك (الممثل أندريا لاتانزي) الذي يقوم بسرقة حقيبة من المال من أحد عناصر المافيا، ومنذ تلك اللحظة يصبح هدفا لتلك العصابة، فلا يجد سبيلا سوى الاختباء في أقرب مكان يتاح له وهو شقة لودفيكو.
هذا التحول الجذري في هذه الدراما الفيلمية هو في الواقع تحول في الوعي وفي فهم العالم من حول لودفيكو وعلاقته بالمرأة وعزلته ونجاحه وفشله وسر السعادة، وقضايا أخرى كانت مثل نقاط معتمة يبدأ ذلك اللص جاك بإضاءتها بشكل غير مسبوق في حياة لودفيكو، فمثلا كونه يعاني من مرض الاكتئاب يعود إلى عزلته وانطوائه، وفشله في الدراسة يكافئه النجاح في الكوميكس، وانعزاله عن المرأة يكافئه تقدير الجارة كاميليا له وهكذا.
تسير هذه الدراما على عدة خطوط متوازية، فمن جهة الحياة اليومية لكل من لودفيكو وجاك تتعمق خلال فترة وجيزة، وما يلبث كل واحد منهما أن يكشف عن مكنونات نفسه، ومن جهة أخرى هنالك بحث المافيا الجنوني واقتفاء أثر جاك، وانتشار رجالات المافيا في كل مكان على دراجاتهم النارية، في مقابل الخط الثالث الذي سوف تمثله الفتاة الجارة التي يشهد لودفيكو خلافاتها مع صديقها محاولا التقرب منها، وهو ما سوف يتوج في الليلة الأخيرة التي سوف تلتقي فيها الجارتان مع اللص وصديقه.
وفق هذه المسارات الدرامية تأسست تلك العلاقة الاشكالية ما بين جاك ولودفيكو ونظرة كل منهما إلى الحياة، وهو ما اشتغل عليه المخرج بمهارة وحرفية عالية وهو يقدم بعفوية وبساطة شخصيتين طحنتهما الحياة فضاعت البوصلة بالنسبة إليهما، فمن جهة هنالك جاك الذي يقول إنه يتذكر والديه وإنهما كانا طيبين، ولكنه لا يعلم لماذا لم يقتف هو وشقيقه أثرهما فتحولا إلى لصين، أما لودفيكو فهو يحاول إثبات نفسه أمام والده، ولكنه لا يستطيع ويبقى يتلقى المال منه، وحيث لا تشفع له تلك الرسوم التي يقوم بإنجازها.
تحولات مأساوية
لنعد إلى المافيا التي تقتفي جاك، فهي الأخرى لها علاقاتها وأجواؤها، والقتل بالنسبة إلى زعيم العصابة وارد في أي لحظة وتجاه أي أحد ولا يبقى لديه سوى ذراعه اليمنى الضاربة التي تقوم بعمليات القتل، وهو المكلف بجلب جاك بأي طريقة وصولا إلى التفتيش المستمر للشقق السكنية للعمارة بحثا عن أثر لجاك، وهو ما سوف يتحقق في النهاية، لتقع مجزرة حقيقية يكون ضحيتها لوديفكو، وهي الصدمة التي ضربت جاك في الصميم وليعثر من بين الرسومات على إهداء خاص لجاك خلاصته: شكرا لك فقد غيرت لي حياتي.
المسارات الدرامية مجتمعة تكاملت معها إدارة متميزة للتصوير ومشاهد ليلية مصنوعة ببراعة وتكامل في الحوار بين الشخصيات
هذه المسارات الدرامية مجتمعة تكاملت معها إدارة متميزة للتصوير ومشاهد ليلية مصنوعة ببراعة وتكامل في الحوار ما بين الشخصيتين، وفي كل الأحوال كان هنالك الأمل لدى كل منهما في الوصول إلى الهدف، فبالنسبة إلى جاك كل حلمه هو الوصول إلى شقيقه في البرازيل، ويبقى متشبثا بذلك الأمل حتى يخبره زعيم المافيا بأن شقيقه قد تمت تصفيته ورميه في البحر، وبهذا لم يبق له من شيء ولا أمل يتشبث به سوى لودفيكو.
وأما الوقفات الإنسانية العميقة فهي التي تتكامل من خلالها شخصيتا لودفيكو وجاك، لاسيما وأن كلا منهما يعيش في ما يشبه العزلة، لكن جاك يرى ما لايراه لودفيكو عن نفسه، وهو يخبره بأن روحه الصافية هي كنزه الكبير وهو في الواقع كمن وجد النسخة الأخرى التي يريد أن يراها في نفسه، الصورة الصافية والنقية التي يريد أن يكون عليها، ولكنه يجد صعوبة في الوصول إليها.
وفي كل الأحوال كانت هنالك المزيد من التحولات المذهلة والمأساوية التي سوف تنتهي في هذه الدراما إلى تصفية شاملة ينتهي فيها دور زعيم المافية وعصابته، وكذلك يطول الشرر لودفيكو وأخيرا جاك الذي يجد نفسه مرميا قرب مكب للنفايات، فيما عمال النظافة يستولون على حقيبة المال التي سرقها.