نعرفهم لا نعرفهم

نعبر طريقا طويلا في حياتنا مليئا بالوجوه التي نلتقيها يوميا، بعضها مألوف وبعضها الآخر عابر، لكن من بين هذه الوجوه هناك أرواح قريبة منا وهي بعيدة، أرواح لم نرها يوما بأعيننا، ولم تجمعنا بها لقاءات ولا محادثات مباشرة، لكنها حاضرة في وجداننا بهيئة يصعب تفسيرها، وهؤلاء أشخاص يكونون مجهولين بالنسبة إلينا، لكنهم يلعبون دورا كبيرا في حياتنا في دائرة روحانية رهيبة.
إنهم أولئك الذين تشعر بوجودهم في لحظات ضعفك، حين تحتاج إلى سند أو دعم معنوي، ثم يبعثون فجأة وكأنهم مرسلون من القدر ليكونوا بجانبك في أكثر أوقاتك احتياجا، فيكون دعمهم في صورة كلمة مشجعة تقال في لحظة انهيار، أو دعاء في الخفاء لا تعلم به، أو ربما موقف بسيط يمنحك الأمل للاستمرار، وهم أولئك الذين يمدونك بالقوة دون أن يدركوا حجم تأثيرهم عليك، ويقدمون لك العون دون أن ينتظروا منك أي مقابل أو حتى اعتراف بجميلهم.
ربما تكون هذه الأرواح أشخاصا نعرفهم دون أن نتواصل معهم فعليا، وربما هم غرباء تماما عنا، لكنهم في لحظة ما أصبحوا أقرب إلينا من أقرب الناس إلينا، فتجد نفسك تتساءل: لماذا يفعل هؤلاء ذلك؟ ما الذي يدفعهم إلى تقديم المساعدة دون أي مصلحة أو دافع؟ الإجابة ببساطة تكمن في أرواحهم الطيبة ونقاء دواخلهم، إنهم يتحركون بدافع إنساني بحت، بعيدا عن حسابات المصالح أو الانتظار المتبادل.
الأغرب في الأمر أن هؤلاء الأشخاص غالبا ما يغيبون عنك في لحظات الفرح والسرور، لكن حضورهم في أوقات الألم والمعاناة يجعلهم أكثر أهمية، يجسدون تلك القوة الخفية التي تعيد التوازن لحياتك عندما تفقده، وأحيانا يكون دعمهم بسيطا جدا في كونهم حاضرين في مخيلتك، ويحدث فرقا عميقا في داخلك، ويحدث أن تعيش حياتك كاملة دون أن تدرك تماما من هم هؤلاء، لكن أثرهم يظل راسخا في ذاكرتك ووجدانك كدليل على أن الخير موجود في هذا العالم.
فهناك بعضهم يكون موجودا في حياتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يكتبون تعليقا إيجابيا أو يرسلون رسالة دعم خفية في وقت عصيب، وآخرون يكونون جيرانا لم ننتبه لوجودهم إلا عندما قدموا المساعدة في لحظة طارئة، وربما هم زملاء في العمل أو الدراسة، يمرون بصمت في يومنا العادي، لكنهم يظهرون كأنهم ملائكة في الأوقات الحرجة.
هذا النوع من الأشخاص يعلمنا الكثير عن جوهر الإنسانية، يعلمنا دروسا في العطاء والتفاني وحب الخير دون انتظار أي مقابل، ويذكرنا بأن الحب ليس مجرد كلمات تقال أو تكتب، بل أفعال تترجم في مواقف يصعب قولها، فهؤلاء يدفعوننا للتفكير في دورنا نحن أيضا في حياة الآخرين، وكيف يمكننا أن نصبح نحن تلك الأرواح الخفية التي تساهم في تخفيف معاناة الآخرين دون أن نطلب شيئا في المقابل.
وهؤلاء الأشخاص يجعلوننا نتساءل عن مفهوم العلاقات الحقيقية؛ فهل القرب الجسدي، أو اللقاء اليومي، هو ما يحدد قوة العلاقة؟ أم أن هناك أبعادا أعمق تربط الأرواح ببعضها البعض، تتجاوز المسافات والأوقات؟ الإجابة على الأرجح تكمن في هذا النوع من الروابط التي لا يمكن قياسها بالمعايير التقليدية، بينما أكثر ما يميز هؤلاء هو أنهم يعيدون إيماننا بالإنسانية في زمن يطغى عليه الصخب والمصالح الفردية، ويجعلوننا نؤمن بأن هناك من يهتم لأمرنا دون أن نطلب، ودون أن نحتاج إلى إثبات أننا نستحق ذلك الاهتمام، ثم يتركون بصمة خفية تغوص وتغوص ولا يمكن تفسيرها، تجعلنا نشعر بالامتنان لوجودهم في حياتنا، حتى وإن لم نرَهم أو نتعرف إليهم عن قرب.
وتبقى حقيقة واحدة ثابتة، هي أن هؤلاء الناس سواء عرفناهم أم لم نعرفهم، يمثلون جزءا من تلك الشبكة الخفية التي تدعمنا في الحياة، فلا نتمكن من تحديد أسمائهم أو تذكر وجوههم، لكن أرواحهم تظل قريبة منا، تساندنا في أوقات الضعف، وتعلمنا كيف نكون نحن أيضا مصدر قوة ودعم للآخرين، هؤلاء الأرواح هم هدية القدر، هم رمز للعطاء غير المشروط، وحضورهم في حياتنا يجعلها أكثر إنسانية ودفئا، حتى لو بقوا في الظل بعيدا عن الأضواء.
نراهم وكأنهم على الشط يا صاحبي، بعيدون عن أعماق حياتنا، ونحسب أنهم مجرد عابرين، وهم في الوقت ذاته يروننا على الشط، ظلالا تمر دون تأثير، بينما القدر بسمائه الواسعة يجمعنا بهم فجأة، في لحظة لا نتوقعها ولا نخطط لها، كأن السماء ترسم لنا خيوط اللقاء بيدٍ خفية، تقرب الأرواح التي تبدو متباعدة، وتضعها في مسار واحد، فحينها ندرك أن المسافات لم تكن سوى وهم، وأن هذه الأرواح كانت دائما قريبة منا، تحمل لنا الخير والدعم، حتى وإن بدت ظاهريا بعيدة عن عالمنا.