نظرية "لله يا محسنين لله" لتحرير فلسطين

اجتماع العقبة انتهى باتفاق يا ليته لم يكن. أولا، لأنه لا نفع فيه. وثانيا، لأنه كان من جانب السلطة الفلسطينية مجرد استمرار لسياسات التوسل التي ينتهجها الرئيس محمود عباس. وثالثا، لأن المحيط الإقليمي (مصر والأردن) يبحث عن الهدوء، ولو كان لا يأمل بتحقيقه بالفعل. ورابعا، لأن الولايات المتحدة لديها ما يعرقل انخراطها بالبحث عن مخرج من المأزق. وخامسا، لأن مجتمع التطرف الإسرائيلي هم الأغلبون. وسادسا، لأن بنيامين نتنياهو هو نفسه، سوى أن النجاح بالعودة إلى قيادة الحكومة للمرة السادسة زاده اقتناعا بأن الخمس السابقات، إذا كانت حققت له ما يريد، فلماذا يتخلى عنها.
أبو التوسلات يعرف ما يريد ولكنه يتخذ السبيل الخاطئ له باستمرار. وهو عنيد وصلف إلى درجة أنه لم يترك لناصحيه إلا أن ينتظروا موته لكي تنزاح الصخرة التي تجثم على صدور الفلسطينيين.
وهو يتوسل الآن طلب حماية دولية للشعب الفلسطيني، وهو يعرف جيدا أنه طلب غير قابل للتحقيق، ولكنه يواصل تقديمه، لأن نظرية التوسل التي يصدر عنها، لا تملك شيئا آخر لتقوله.
نظرية "لله يا محسنين لله" لم تحقق شيئا إلا المزيد من التفكك مقابل التغول الإسرائيلي فقد بقي الرئيس عباس في السلطة ورفض تسليم الراية لمن هو أقدر منه على حملها
ولقد بقي يجرجر فكرة وقف التنسيق الأمني دهرا من الزمن، في الرد على الانتهاك والآخر، من دون أن يفعله حتى جاءت مجزرة نابلس، فأسقط في يده، وهو غير راغب. وحالما حصل على الدعوة إلى اجتماع العقبة، ذهب مسرعا ليوافق سلفا على ما سوف ينتهي إليه. كان يكفي لنظرية “لله يا محسنين لله”، أن تحصل على لقاء ووعود فارغة، لكي يوافق عليها. الرجل، وأزلامه، يعتقدون أن مجرد الجلوس مع أي مسؤول إسرائيلي هو نعمة من نعم الله عليه وعلى قضيته. وظل وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يضحك عليه بدعوات لشرب الشاي، فيعود منها فرحا وهو يظن أن الأمور ماشية في الاتجاه الصحيح؛ اتجاه الصدقات التي يمكن أن تتلقاها سلطته من إسرائيل.
نظرية “لله يا محسنين لله” لتحرير فلسطين، هي التي تقف وراء انتصار التطرف في إسرائيل. الفكرة هناك تقول، إذا كان عدوك ضعيفا وعاجزا ويمثله رئيس مثل محمود عباس، يحيط نفسه برجال فاسدين، فلماذا تقدم له أي تنازلات. هو متسول، وقد حصل على أكثر مما يستحق. فلماذا تعطيه المزيد؟
هذه الرؤية هي ما يدفع المستوطنين إلى القسوة ضد الفلسطينيين. هي ما يبرر الأعمال الوحشية الإسرائيلية. هي ما يشجع على الدعوة العلنية لإطلاق النار ضد الفلسطيني كيفما اتفق لمجرد الشعور بالتهديد. وهي ما يقف وراء امتناع التسوية، بل انعدام المبررات لها. ولولا بعض ضغوط دولية وإقليمية تحول دون أن تلتهم إسرائيل ما أعطته لسلطة عباس من صدقات، في إطار بعض ما أمكن من اتفاقات أوسلو، فإنها ما كانت لتتردد على الإطلاق في أن تواصل الزحف حتى لتقيم مستوطنة في جوار مقر الرئيس في رام الله، بل وأن تطالبه بأن يحصل على عشائه منها.
لقد استغل الرئيس عباس، وحفنة أتباع من حوله، قضية شعبه، ليتوسل ويتوسلوا بها، معتقدين أنهم يستطيعون أن يحققوا مطالب شعبهم، لمجرد أنهم مرنون وطيعون ويُرضيهم بالقليل. وبرغم أن نظرية “لله يا محسنين لله” لم تحقق شيئا إلا المزيد من الانهيارات والتفكك والضعف، مقابل التغول والتطرف الإسرائيلي، فقد بقي الرئيس عباس في السلطة، ورفض تسليم الراية لمن قد يكون أقدر منه على حملها.
والعالم مشغول عنه. كل لديه مشاكله. ولا ينتظر من أزمة تحولت إلى مستنقع راكد، إلا فقاعات روائحه العفنة: هجوم هنا، واعتداء هناك، وقتيل كل يوم، وسلطة فلسطينية تتوسل، وحكومة إسرائيلية تزداد تطرفا، ومجتمع إسرائيلي يؤمن بالعنف.
ما تفعله الوحشية الإسرائيلية هو أنها تقود إلى انفجار العنف على أوسع نطاقاته. والجواب الذي تفرضه قسرا قد يكون هو الجواب: العنف مقابل العنف، لا لكي يتوقف في هدنة، بل على حل أخير. سوف تراق الكثير من الدماء قطعا. ولكن إذا كان يجب لها أن تراق، فلتراق، طالما أنه لا مخرج آخر.
العالم المشغول بمشاكله، يجب أن تصنع له مشكلة أكبر من كل مشاكله لكي يهتم بك. لا توجد حقيقة أكثر بساطة واستقامة من هذه.

أحد الحلول الأخرى، هو أن يتخلى الرئيس عباس وزبانيته عن تلك النظرية. أولا، لأنها لم تنفع. وثانيا، لأنها مخزية. وثالثا، لأنها تتحول إلى أداة لخدمة أتعس النزعات في إسرائيل وأكثرها هستيرية. ولكن ذلك يقتضي، أن يعثر عباس على طريق آخر، تدله عليه خيارات شعبه، في نقاش مفتوح، يحدد طريقا معلوما، بتكاليفه ومستلزماته ونهاياته.
الفلسطينيون ليسوا ممن لا يعرف الطريق. ولكن قيادة الرئيس عباس ساقتهم في اتجاه، لم تثبت الأيام إلا أنه خاطئ. لم تثبت الأيام إلا أنها جزء من المشكلة، بعدما أصبحت أقل من سلطة، وأكثر من مجرد منظمة فساد.
لقد صنعت سلطة الفشل جيلا فلسطينيا جديدا. جيل تمرد. يعرف ما يريد ويؤمن بأن الطريق إلى الحرية مكلف للغاية. ولا طريق سواه الإسرائيليون لم يتركوا لهم سواه، لأنهم ليسوا مجتمعا ناضجا بعد.
يعرف الإسرائيليون أنهم بدأوا بجريمة. وخشوا من غفرانها، لكي لا تتحطم السردية التي وفرت “المبرر” للجريمة. تستطيع أن تفهم كيف أن التطرف أصبح خيارا وحيدا. فلكي تبرر دافعك لارتكاب جريمة، ارتكب أبشع منها. ذلك هو الأساس الذي وفر لليمين الإسرائيلي أن يزداد استعدادا لكي يفرض الأكذوبة على أنها هي الواقع الوحيد الممكن.
الفلسطينيون يقفون أمام هذا الواقع. كان أمامهم خياران: البحث عن تسوية بشرف، أو الحرب. اختاروا التسوية بأكثر أشكالها ذلا، فحصلوا على الحرب والذل معا.
لله يا محسنين لله، أشفق عليهم بدعوة جديدة إلى العقبة أو شرم الشيخ، ولسوف تجدهم مرنين وطيعين ويرضون بالأقل من القليل، حتى يُرزقوا بمجزرة أخرى، إلى أن يموت الرجل، فتُرفع الصخرة.