نظرية المؤامرة.. اعتناق لدرجة الهوس ورفض إلى حد اعتبارها "مؤامرة"

الفرق واضح بين وجود المؤامرة كواقع وحقيقة وسلوك، وبين تبنّي نظرية المؤامرة كبنية تفكير وأسلوب قراءة لكل ما يحيط بنا من أحداث. وانطلاقا من هذا المعطى الثابت، ينقسم السلوك البشري بين القائل بأنّ الحقيقة ليست هي الواقع الذي يراد تصويره وتسويقه، بل تختفي وراءها مصالح لقوى تظهر عكس ما تبطن، وبين من يؤمن بأنّ الحيلة في ترك الحيل، وأنّ كل الناس خيّرون إلى أن يثبتوا عكس ذلك، ودافعهم في هذا هو أنّ العمر أقصر من أن تضيّعه في الشكوك، والأجدر بك أن تريح تفكيرك لتتصدى إلى الخطر ساعة وقوعه، وليس في حالة “عدم وجوده”.
الثلاثاء 2016/07/19
لا وجود للاعب لا يتآمر ضد خصمه

المؤامرة قديمة قدم الذات البشرية وأطماعها ومصالحها، والمؤامرة هي التي أغنت الإرث الدرامي في تاريخ البشرية، منذ الميثولوجيا القديمة، مرورا بمسرح شكسبير الذي تفوح منه روائح الدسائس في ردهات القصور، وحتى الساحات العامة كما حدث مع يوليوس قيصر الذي تآمرت كل روما ضده وصولا إلى التاريخ الحديث الذي صارت تحاك وتكشف فيه المؤامرات على الشاشات و”على الهواء مباشرة”.

نكاد نتفق جميعا على أنّ نظرية المؤامرة ـ في مفهومها العام ـ هي محاولة شرح السبب النهائي لحدث أو سلسلة من الأحداث السياسية والاجتماعية والتاريخية على أنها أكاذيب، وسيناريوهات جاهزة يراد من خلالها إقناع “الجهة المستهدفة” بعكس الواقع والحقيقة، وذلك بقصد الوصول إلى غاية محددة سلفا.

الأمر ينطبق على علاقات الأفراد ببعضهم أو الجماعات والمؤسسات والهيئات والحكومات التي يرونها متآمرة بشكل منظم وتقف وراء تلفيق الأكاذيب، والكثير من المتحيّزين لهذا النمط من التفكير، يدّعون أن الأحداث الكبرى في التاريخ قد هيمن عليها الكاذبون والمنتفعون وأداروها من خلف الكواليس.

وورد مصطلح “نظرية المؤامرة” لأول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920، ولم يجر تداوله إلاّ في العام 1960، وتمت بعد ذلك إضافته إلى قاموس أكسفورد الشهير عام 1997.

وتختلف تعريفات مصطلح نظرية المؤامرة باختلاف وجهات نظر أصحابها، ويمكن القول إن المؤامرة فيها طرفان أساسيان هما المتآمر والمُتآمر عليه، وذلك بقصد إخفاء الحقيقة التي لا تحتمل التلوّن والتشكّل بحسب كل النظريات الأخلاقية.

يشكل العالم العربي فضاء حيويا لممارسة نظرية المؤامرة وتسويقها، وبامتياز، فالشعوب العربية توصف بـ”البارعة” في تبنّي هذا النمط من التفكير بين الأفراد والجماعات، وفي مختلف العلاقات، بل يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن نظريات المؤامرة لا تلقى أنصارا في البلاد المتقدمة، والمجتمعات التي لا تجد الوقت للتحليل والتركيب والتلفيق، ثم إنها لا تعاني من أزمات في الثقة بين الأفراد والمؤسسات، كما هو الحال في البلاد العربية.

وقد يتعجب هؤلاء إذا عرفوا أن هناك في الغرب أنصارا كثيرين لمثل هذه النظريات التآمرية، مثل القول بأنّ زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن مازال حيا، أو أنه كان قد مات قبل الإعلان عن مقتله بفترة طويلة، وأن الأميرة ديانا أشاعت أنها ماتت لكي تواصل حياة سرية بعيدا عن الأضواء، ونظرية أخرى تتحدث عن مؤامرة قتلها، أو أن الهبوط على سطح القمر لم يحدث، ولم يكن إلاّ مجرد تمثيلية.

ويذهب المتمسّكون بهذه الاعتقادات بعيدا في دعم شكوكهم التي صارت قناعات على مواقع الإنترنت، يتبادلون الحجج والقرائن، ويشكلون مجموعات ومنتديات، يجمع بينها العمل على تكذيب ودحض كل ما تريد الجهات الرسمية تسويقه كقناعة لا تقبل التشكيك.

البعض يحاول البرهنة على أنّ الاعتقاد في نظريات المؤامرة يندرج في إطار المرض النفسي، والأرجح أن ذلك ليس صحيحا بالضرورة، كما يؤكد أطباء نفسانيون، فهناك أشخاص لا يعانون من أي مرض نفسي، فهم يؤمنون بتلك النظريات ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي ومتوازن، كما أنّ هناك فروقا بين الشك والاعتقاد الراسخ، وهذا ما لم تشر إليه معظم الدراسات.

الثقة العمياء قد تؤدي إلى الهاوية

رقعة شطرنج لا تحتمل المجانية أو المصادفة

المؤمنون بنظرية المؤامرة في العالم العربي لا تضطرّ للبحث عنهم أو حتى محاورتهم، فهم في المقاهي وعلى شاشات التلفزيونات وأمامها، يناقشونك حتى دون أن تسألهم أو تأخذ رأيهم، وتُروى عنهم حكايات وطرائف كثيرة، بل ويروونها عن أنفسهم، حتى أن أحدهم قال لنا “إن عدم تصديق نظرية المؤامرة، هو في حد ذاته مؤامرة كبرى".

وتقول صابرة، وهي موظفة في العقد الخامس وغير متزوجة، “أنا أعيد عد أصابعي كلما صافحت أحدا، لا يوجد قط يصيد الفئران لأجل مصلحة أصحاب البيت، كما يقول المثل الشعبي، وأنا ظللت مضربة عن الزواج بسبب أطماع الشباب الذين يتقدمون لخطوبتي”.

ويرد صلاح زميل صابرة في الوظيفة بالقول، “إن صابرة حرمت نفسها من حياة أسرية بسبب تمسكها بنظرية المؤامرة”، ثم يضيف “أنا شخصيا أبحث عن زوجة ذات وضع مادي مريح، وكلما تحدثت صراحة في هذا الموضوع اتهموني بالانتهازية”.

ويبدو أن عدم التسليم بنظرية المؤامرة في نظر الكثيرين هو نوع من المحدودية في التفكير، فالحياة في نظرهم أشبه برقعة شطرنج ولا وجود للاعب لا يتآمر ضد خصمه، ولا يمكن الحديث عن نقلة مجّانية في الشطرنج، كما لا يمكن تصديق هدية أو مبادرة مجانية.

ويوضح علماء النفس من الاتجاه التطوري أن تصميم المخ يشبه جهاز كشف الدخان، أي أنه يصدر ضوءا أحمر عند مجرد احتمال الخطر، فالإنسان لا يستطيع أن ينتظر توفر أدلة ثابتة قبل الفعل لمواجهة الخطر، ذلك أنّ الوقت يكون قد فات والضرر قد وقع، وهذه الوظيفة ضرورية للاستمرار وتدخل ضمن آليات الدفاع.

وقد لاحظ علماء نفس آخرون أن لدى المخ البشري آليات معرفية للبحث عن الأسباب الخفية والمعقدة، وذلك نتيجة للحاجة إلى فهم دوافع الآخرين داخل المجموعة التي ينتمي إليها الأفراد أو خارجها، وقد فسّر العالمان بوير ونورنزايان شعبية أعمال أدبية كشرلوك هولمز وجيمس بوند وهاري بوتر وأرجعاها إلى قدرة كتابها على تنشيط ممارسة تلك الآليات.

سيطرة نظرية المؤامرة على العقلية العربية من شأنها أن تحبط العزائم أكثر من أن تشحنها، فهي لا تخدم آلية التصدي للمؤامرات الحقيقية في حال وجودها

وتقول الكاتبة جنيفر هاربر في مقالة لها بصحيفة “الواشنطن تايمز”، “إن رواية اغتيال بن لادن أصبحت تحتل مركز نظرية المؤامرة هذه الأيام وربما منذ عقد، يغذيها نشاط مفرط للإنترنت وتضارب الكثير من التفاصيل في هذا الشأن، لتعزز أحداث السنوات الأخيرة الأفكار الإبداعية التي تحلل مصير بن لادن وإصدارات البيت الأبيض عن قصة اغتياله”.

ونقلت الكاتبة عن فرانك فارلي، وهو عالم نفس بجامعة تمبل والرئيس السابق لرابطة علم النفس الأميركية قوله، “إن قرار البيت الأبيض عدم الإفراج عن صور وفاة بن لادن يغذي نظرية المؤامرة، والثقة قليلة جدا هذه الأيام، لا سيما في المؤسسات الحكومية وغيرها، وعندما تحتوي الرواية الرسمية مثل هذا الغموض، ينتشر عدم اليقين، فيشتغل الناس بمجموعة من النظريات”.

وقالت الكاتبة إن وكالة رويترز أصدرت ثلاث صور تكشف عن جثث أخرى في موقع الحادث، حيث قتل بن لادن. لكن أين الهدف الرئيس؟ وفي مقابلة مع شبكة “سي بي إس” على الهواء، دافع الرئيس باراك أوباما عن قراره بحجب الصور، مشيرا إلى أن “منظري المؤامرة سيقولون إن الصور وقع التلاعب بها على أي حال”.

واستشهدت الكاتبة بفارلي مرة أخرى لتنقل عنه قوله “في مسألة بن لادن، تتحرك الأحداث بسرعة، مع تفسيرات وقصص مختلفة.. الجثة نقلت بعيدا ودفنت في البحر، هل دفنت في البحر؟ هذا يبدو وكأنه شيء من بحرية القرن التاسع عشر.. هذا أمر غريب حقا، ولا شك أن فيلما هوليووديا في طور الإنشاء”.

وقالت إن قصة اغتيال بن لادن ستكون مثل قصة موت ألفيس بريسلي، التي أثارت فضول المروجين لفترة طويلة.

وأضافت الكاتبة تقول إنه في العقد الماضي، قدمت تقارير صحافية كثيرة أفكارا بشأن مكان اختفاء بن لادن، حتى أن بعضها كان أسطوريا والبعض الآخر كوميديا.

وقالت الكاتبة إن الجمهور يستطيع أن يبحث في نظرية مؤامرة خاصة به في أي مكان على شبكة الإنترنت كما يقول فارلي، وتستشهد بناشطة السلام سيندي شيهان التي تدير برنامجا إذاعيا على الإنترنت، حيث قالت إن بن لادن عميل لوكالة المخابرات المركزية الأميركية ولقي حتفه منذ سنوات، و“إذا كنت تؤمن بالرواية الرسمية لموت أسامة بن لادن، فأنت غبي”.

شخصية دونكيشوت كانت ضحية وأسطورة لنظرية المؤامرة

الناس خيرون حتى يثبتوا العكس

المستهترون بنظرية المؤامرة يرون أنها ظهرت انطلاقا من مذكرات وقصص أفراد، وهذا يجعلها فرضية أقل منها نظرية، ولا يوجد ما يحولها إلى حقيقة رغم كونها موجودة بل وتشكّل مشكلة حتى في التواصل بين الأفراد.

وينقسم هؤلاء إلى مجموعتين، هما على طرفي نقيض، وذلك من جهة التحصيل العلمي، فمنهم الكتاب والمحللون والمثقفون المعروفون، ومنهم أيضا البسطاء من العامة وذوي التحصيل العلمي المحدود، وكذلك الكثير من مدمني مشاهدة التلفزيون، كما أنّ نسبة الشباب تحتل الصدارة في فئة الذين لا يبالون بنظرية المؤامرة، وينعتون أصحابها بالتقوقع والانعزال وعدم القدرة على مواكبة العصر، وهو الأمر الذي نجد نقيضه لدى نفس الفئة العمرية من الشباب الذي يتم استقطابه من قبل الجماعات التكفيرية على شبكات التواصل الاجتماعي.

ويقول عبدالرحمن، وهو مدرّس تعليم ثانوي، “إن أنصار نظرية المؤامرة يذكرونني بالمولعين بالرمزية والشغف بفك الأحجيات، وأنا من الواقعيين الذين يؤمنون بأن الطبيعة لا تتآمر ضدنا، كما أن تصريحات قادة الدول العظمى ليست في حاجة إلى المواراة والكذب على شعوب العالم الثالث، بل بالعكس، فالكثير من الحكومات العربية هي التي تكذب على شعوبها”.

المشككون في نظرية المؤامرة يردون على الكثير من المتدينين والمحافظين في العالم العربي والذين يتذمّرون من المشاهد الإباحية على الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، ويعتبرونها مؤامرة موصوفة، بقولهم “إن العري والدعارة موجودان منذ عصور التاريخ الغابرة وليسا وليدي اللحظة، فالتاريخ مليء بالقصص التي تتحدث عن توسع ثقافة على حساب أخرى، وقد نشر العرب ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم على المعمورة، وأضعفوا الكثير من الثقافات التي كانت متواجدة حينها، وربما بسبب أنها لا تملك القدرة على الصمود، ثم إن تغيير العادات والتقاليد العربية والإسلامية، لم يقض على جوهر الهوية العربية والإسلامية، ومازالت العادات والتقاليد مقدسة في العالم الشرقي”.

المؤمنون بنظرية المؤامرة لا تضطر للبحث عنهم، حتى أن أحدهم قال "إن مجرد عدم تصديق نظرية المؤامرة هو في حد ذاته مؤامرة كبرى"

الواقفون ضد نظرية المؤامرة يرون أنّ إضفاء صفات الإعجاز على القوى الغربية، هو مزاعم لا يدعمها واقع، بل بالعكس فإن الشواهد التاريخية تدحضها، وقد أثبتت الشعوب العربية أنها لا تنخدع، لا بالدعايات الرسمية ولا بمزاعم الخارج، بل تتحرك بقناعاتها، ولعل أهم إنجاز لثورات الربيع العربي أنه لم يكن فقط الإجهاز على أنظمة فاسدة وكسر حاجز الخوف في مواجهتها، بل قضت نهائيا على عقليات نظرية المؤامرة وما تنطوي عليه من قلة الثقة في الذات، وتضخيم قدرات الآخر لدرجة التقديس. ويقول أحد الكتاب العرب “الآن عرفت الشعوب العربية أنها هي وحدها التي تتحكم في مصيرها.. حين تتوحد الإرادة وتريد الشعوب الحياة وترفض الركوع لغير الله تعالى وتركل بعيدا أصحاب أصوات الخنوع ممن يطيب لهم الهتاف “فلان وبس”.

ويضيف الكاتب أن “استمرار الحديث عن مؤامرات أجنبية وراء الثورات العربية، يعبّر عن خلل كبير في الرؤية. فصحيح أن الإدارة الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن قد لوّحت في فترة ما عن عزمها جعل نشر الديمقراطية في المنطقة العربية إحدى أولويات سياستها الخارجية”.

وربما غاب عن أصحاب نظرية المؤامرة، وهم في غالبيتهم من المتشائمين والمتوجّسين، بأنّ عدوهم الافتراضي، أو حتى الحقيقي، يتنبّه إلى تغلغل هذا التفكير الهدّام في الذهنية العربية، فيحاول مخاطبته عبر نفس الأسلوب التشكيكي، الأمر الذي يشلّ كل بادرة للتفكير الإيجابي.

ويقول سليم “أنا أؤمن بنظرية المؤامرة في شيء واحد، وهو أنّ الخصم المفترض قد تآمر علينا وجعلنا نعتقد بنظرية المؤامرة”، ويضيف زميله “أغرب ما قرأته عن مرضى نظرية المؤامرة في المجال الموسيقي هو اعتقادهم الراسخ بأنّ الآلات الكهربائية للعزف، هي مؤامرة”.

ويتفق محللون على أنّ سيطرة نظرية المؤامرة على العقلية العربية، من شأنها أن تحبط العزائم أكثر من أن تشحنها، فهي لا تخدم آلية التصدي للمؤامرات الحقيقية في حال وجودها، وفي هذا الصدد نبه دارسون عرب إلى خطورة ما ذهب إليه المستشرق المعروف، برنارد لويس صاحب أطروحة “صراع الحضارات”، والذي لم يكتف بالقول إن الثورات العربية لن تؤدي إلى الديمقراطية، بل أضاف إن أهم أسباب الثورات هو الإحباط الجنسي لدى الشباب العربي.

12