نظام منهك ومتمردون هدفهم عاصمة الخلافة

حالة الإنهاك التي يعاني منها النظام السوري جعلته يكتفي بحكم أشلاء دولة صارت ملعبا للمتصارعين على اقتسام خارطة النفوذ من أتراك وروس وأميركان وفرنسيين وإيرانيين وغيرهم، ومن أصحاب النزعات الطائفية المدفوعين بالوقود العقائدي سواء من السنة أو الشيعة، والجماعات الإسلامية المتشددة التي تمت تهيئتها منذ 2011 لخوض معركة المصير في سياق ما سمّي بالفوضى الخلاقة التي برزت بالخصوص من خلال عاصفة «الربيع العربي» التي انطلقت من تونس ومصر وليبيا واليمن ووصلت إلى سوريا في 15 مارس 2011.
انطلقت هذه العاصفة بمظاهرة شعبية في سوق الحميدية سرعان ما اتسعت لتشمل مختلف أرجاء البلاد، فكان الصدام المدمّر بين النظام العقائدي وتيارات الإسلام السياسي التي سرعان ما استلمت الراية من الثوار الحقيقيين، وكست شعارات الانتفاضة بخطاب ديني طائفي تكفيري وجد أرضا خصبة في انتظاره نتيجة الضخ الإعلامي الموجه.
تحولت سوريا بداية من العام 2012 إلى مركز استقطاب لعشرات الآلاف من المسلحين القادمين من مختلف دول العالم، والذين يجمع بينهم التطرف والنزوع إلى الإرهاب، واشتركت دول عدة في التمويل والتجنيد والتسليح، وبرز الجيش السوري الحر كذراع عسكرية لجماعة الإخوان في بعديها المحلي والدولي، و«جبهة النصرة» كجناح سوري لتنظيم القاعدة سرعان ما تحول إلى هيئة تحرير الشام التي نراها اليوم تقود معركة الاستيلاء على الدولة والمجتمع.
◄ الهدف الخفي للقوى الأجنبية هو الإطاحة بالدولة العقائدية وليس فقط النظام، أي حل الجيش والأمن، وتكرار النموذجين العراقي والليبي
كما تشكلت دولة داعش التي استطاعت أن تسيطر على مساحات واسعة من أراضي سوريا والعراق وامتد حضورها إلى دول أخرى، وكانت لها علاقات جيدة مع جبهة النصرة وتنظيم القاعدة قبل أن تتحول إلى علاقات عداء بسبب صراع النفوذ، ونجحت في تشكيل كيان عسكري وسياسي لم تتم الإطاحة بمشروعه إلا من خلال التحالف الدولي الذي قاد معركة القضاء عليه، والتي لم تحقق كل أهدافها .
حاليا هناك الكثير من المؤشرات على إمكانية عودة داعش إلى الساحة عبر بوابة سوريا، بل لا أحد يمكنه التأكيد أن داعش غير موجود بعقيدته على الأقل في طلائع المتمردين المتجهين حاليا إلى عاصمة الخلافة التاريخية: دمشق .
أدت الحرب الأهلية إلى تمزيق الجغرافيا السورية بشكل غير مسبوق، وبطريقة عبثية الهدف منها ظاهريا هو الإطاحة بالنظام وبناء الدولة الديمقراطية التعددية، بينما كان واضحا أن الجماعات الدينية المتمردة تهدف إلى اتخاذ سوريا منطلقا لتنفيذ مشروعها التوسعي العقائدي في المنطقة ككل، وهو ما يشكل خطرا محدقا بدول الجوار أولا .
سقوط سوريا بين أيدي الإسلاميين سيؤدي إلى حالة فوضى شاملة، والحديث عن إسلاميين معتدلين غير مناسب في واقع الحال، وأن الجماعات المعتدلة ستكون أولى ضحايا الجماعات المتشددة لاسيما أن الهدف الخفي للقوى الأجنبية هو الإطاحة بالدولة العقائدية وليس فقط بالنظام، بمعنى حل الجيش والأمن وأجهزة الدولة والأحزاب والمنظمات باعتبارها جميعا متأثرة بالعقيدة الحزبية القومية البعثية، وتكرار النموذجين العراقي والليبي.
تتقاسم دول عدة أجزاء مهمة من الجغرافيا السورية، وبحسب دراسة أعدّها مركز جسور للدراسات، فإن المواقع الإيرانية في سوريا تتمثل في 52 قاعدة عسكرية، إلى جانب 477 نقطة. وأما المواقع العسكرية التركية فتتمثل في 12 قاعدة، و114 نقطة.
وتقول إحصائيات الأمم المتحدة إن أكثر من شخصٍ واحد من بين كل خمسة سوريين في عداد اللاجئين، وهذا يجعل سوريا الدولة التي تضم أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة إلى عدد سكانها. ووفق تقديرات المنظمات الأممية والمحلية بلغ عدد اللاجئين السوريين حول العالم نحو 6.5 مليون سوري، في حين يبلغ عدد النازحين داخل البلاد نحو 6 ملايين نازح.
وتشير الأرقام الرسمية للدول التي يوجد فيها اللاجئون السوريون إلى الملايين من الأشخاص المسجلين فمثلاً بلغ عدد السوريين المقيمين في تركيا بموجب الحماية المؤقتة نحو 3.4 مليون سوري، وفي لبنان، تتحدث البيانات الرسمية الصادرة عن السلطات اللبنانية عن وجود مليونين و80 ألف لاجئ سوري أغلبهم لا يملكون أوراقاً نظامية، بينما تقول المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين إن اللاجئين السوريين المسجلين لديها يبلغ عددهم 840 ألف لاجئ، كما يتوزع مئات الآلاف من اللاجئين السوريين في دول عربية أخرى مثل الأردن والعراق ومصر ودول الخليج العربي إضافة إلى المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي.
إضافة إلى ما لا يقل عن 700 ألف قتيل سقطوا في الحرب الأهلية، مع إجمالي خسائر اقتصادية وفرص ضائعة تصل إلى 700 مليار دولار .
مؤسسات الدولة ينخرها الفساد بما يجعلها عرضة للاختراق. حالة الفشل الأمني والمخابراتي التي يعاني منها النظام الذي من المفترض أنه مخابراتي بالدرجة الأولى، حيث ورغم أن أدلب جزء من أراضيه، إلا أنه عجز عن فهم ما يدور فيها من تخطيط وإعداد وتدريب وتجهيز لمعركة تعتبرها الفصائل المسلحة معركة الفصل.
ويبدو واضحا أن النظام تفاجأ بالهجوم الساحق الذي شنه المتمردون على حلب ولم يجد الحل المناسب الذي يمكّنه من التصدي للتحدي الكبير الذي بات يواجهه.
◄ حالة الإنهاك التي يعاني منها النظام السوري جعلته يكتفي بحكم أشلاء دولة صارت ملعبا للمتصارعين على اقتسام خارطة النفوذ
والمثير أن الفصائل المسلحة هي التي استطاعت اختراق أجهزة النظام مخابراتيا، ونجحت في رصد تحركات قواته وفي فتح أبواب المفاوضات مع الكثير من القيادات الأمنية والعسكرية لإقناعهم بالتخلي عن أسلحتهم والانضمام إلى «المعارضة”.
الجيش المنهك، وأغلب عناصره من أبناء الطبقات الشعبية المطحونة، يفتقد إلى أبسط حقوقه الإنسانية التي يمكن بالفعل أن تجعله مقتنعا بالموت في سبيل النظام، فبعد سيطرة المتمردين على حلب، أوعز الرئيس بشار الأسد في مرسوم رئاسي، بإضافة نسبة 50 في المئة إلى رواتب العسكريين.
هناك أشياء لا تشترى بالمال، إحساس العسكري بأن بلاده تتعرض لانتهاكات يومية سواء من الأتراك أو الروس أو الأميركان يجعله في وضعية العاجز عن إقناع نفسه بالولاء للنظام . الضربات الإسرائيلية المتتالية والمتواترة تشعر الجندي بأن دمه الذي قد يضحي به لن يصبّ إلا على مذبح النظام . فخطاب البروغاندا لم يعد يقنع أحدا.
النظام السوري المنهك بات اليوم في قبضة المتمردين ولن ينجو من السقوط إلا في سياق حل سياسي قد يقف وراءه توافق دولي وإقليمي على تقاسم النفوذ والجغرافيا. المشكلة في كل الحالات أن الوضع لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه سواء بقيادة الأسد أو بسيطرة الجماعات المتشددة التي قد تدفع بالبلاد إلى فوضى عارمة سيكون من الصعب التحكم فيها أو الخروج من دائرة تأثيرها السلبي على سوريا والمنطقة والعالم.