نظام العراق السياسي يختبئ في دولاب القمة الـ34

سياسيو الخط الأول في العراق فتحوا النار على حكومة محمد شياع السوداني خلال مرحلة التحضيرات للقمة في محاولة لمنعه من الارتقاء إلى موقعهم بعد الانتخابات القادمة.
الأربعاء 2025/05/21
الاعتماد على الحظ وحده لا يكفي.. ما العمل؟

كشفت القمة العربية الرابعة والثلاثون، التي أُقيمت في بغداد، أن المُراهنة المكيافيلية على “الحظ، الذي هو حاكم نصف أفعالنا،” لم تعد مولعة بتوقيع “كارت بلانش” إضافي لصالح نظام البلاد السياسي. أقصد تحديدًا ذلك الحظ الناتج عن توازنات القوى العالمية. والسبب، بالعودة إلى مكيافيللي، أن “الرب لا يريد أن يفعل كل شيء،” أي السيد الدولي.

انخفاض نسبة التمثيل الدبلوماسي للدول العربية في هذه القمة يمكن وصفه بمصطلح “التعب من الصراع”، الذي يهيمن على أروقة السياسات العراقية. الثلاثي كينينمونت، ستانسفيلد، وسري توصّلوا إلى أن “اللاعبين السياسيين العراقيين ما زالوا يستغلون العلاقات الخارجية للعراق كأداة لاكتساب السلطة داخل البلاد في المقام الأول، بدلاً من تعزيز مصالح العراق داخل المنطقة.” اللافت أن هذا الرأي الثلاثي، الذي قيل قبل أكثر من عقد تقريبًا، ما زال يحتفظ براهنيته ولم يُصب بالشيخوخة.

خلال اليومين الماضيين، وللتغطية على العوائد السياسية المنخفضة لهذه القمة، سرّب رئيس الحكومة الحالية توقعاته لإحدى الفضائيات العراقية، حيث أشار إلى أنه يتوقع الحصول على “مئة مقعد في الانتخابات النيابية القادمة.”

◄ نخبة بغداد الحاكمة تعشق الصفقات مثل الرئيس ترامب، بل وتتفوّق على قارون في صناعة بقائها السياسي الحلال من المال العام

يبدو أن مستشاري الحكومة السياسيين لم يجتهدوا في ضمان الدعم الدولي. فالمستشار السياسي، بحسب فريدريك فيسلاو السويدي، مُطالب بـ”انتباه ثابت لمكافحة التعب من الصراع ومنع تغيّر الأولويات نحو مسائل أخرى تبرز ملامحها على الأجندة الدولية.”

زيارة قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد قبل القمة، كان تفسيرًا آخر أكثر وضوحًا وأشد صخبًا. الفضاء الإعلامي العراقي، المتحمس دائمًا لاستضافة المحللين، حمل زيارته بين قوسين: فتح القوس كان لإقناع الميليشيات الإيرانية بعدم إحراج الحكومة، وإغلاقه بتوصيل رسالة إلى الحاضرين مفادها أن شمس طهران لم تتفق بعد مع سماء المسرح الدولي على كيفية لعب الغروب الأمثل في بغداد.

بعد مقتل القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني، تقلّص دور قاآني بسبب ضعف حضوره وكاريزميته مقارنة بسلفه، كما هو شائع. النتيجة أن رُتبة حضوره انخفضت من “ملهم” كسلفه، إلى “وسيط سياسي لا يبتكر الحلول.” في الكثير من الأحيان، يأتي وكأنه سائق لعربة إسعاف دبلوماسية، يترجّل منها سريعًا ليخرج شِفاه التوازن الإيراني الدقيقة، مجبرًا اللاعبين السياسيين المحليين على تقبيلها. بات مجرد “لمبة” يستخدمها الأمن القومي الإيراني لإشعال الضوء الأصفر لحلفائه، حتى لا يدهسوا الخط الأحمر لنفوذ طهران الحيوي في بغداد.

انتشرت صور “قادة المقاومة”، الأموات والأحياء، في بغداد قبل شهر تقريبًا من موعد انعقاد القمة. تزامن رفع الصور مع تكثيف رئيس النظام السوري الجديد “الجولانية” في رسائل إعلامية متكررة داخل المشهد العراقي والعربي. كان الهدف من ذلك أن تفهم الميليشيات إن كان دورها مجرد “مقبلات” في جولات التفاوض النووية بين واشنطن وطهران، أم إنها تستحق أن تكون جزءًا من “وجبة عشاء دبلوماسي” بين العاصمتين، تخرج منها بعظام سياسية بعد الانتخابات القادمة. الخوف من انخفاض قيمتها من “مقاومة” إلى “تمرّد”، كان يستدعي تكتيكًا دقيقًا من الكبس والرفع لضمان جلب اهتمام طهران. وبحسب فيسلاو، “على الوسيط أن يكون جاهزًا للمواجهة، حيث إنه ليس من غير المألوف أن تحاول الأطراف اختبار قوة الوسيط، وتحديد مدى تأثيره أو قوتها الضاربة.”

بغداد ستندفع إلى تطبيق نصيحة الكاردينال ريشيليو "تفاوض دون توقف، علانيةً أو خفاءً، وفي كل الأماكن"

الميليشيات الإيرانية لا تفهم أن قوارب “سياسيي الخط الأول” هي الوحيدة المتاحة لهم، وليست “سفينة نوح الإيرانية”. عمومًا، طهران لم تعد مهتمة بتوفير موارد دبلوماسية لهؤلاء وأولئك، كي تفرح بوجود “صبيان نيابيين” و”بنات سياسات خارجية غير مسؤولة”، تقوم هي كما شاهدنا مرارًا بترشيدها أمام أنظار العالم، ليعلق العراق في الخطاف الإيراني باسم “الضرورة الدولية”.

السبب الآخر لانخفاض قدرة القمة الرابعة والثلاثين على تعبئة الرصيد الدبلوماسي لبغداد، أنها سبقتها بأيام قليلة فضيحة ميناء خور عبدالله التميمي، التي ساهمت أيضا في تصنيف العواصم العربية لسياسات بغداد الخارجية، تصنيفا لم يكن قادرا على نيل ولو درجة “جيد”. وقد قال إميل خوري عن أهمية التصنيف “إن أحد أهم أوجه العلاقات بين الدول هو تصنيف كل واحدة منها للأخرى، فإذا كان التصنيف في أعلى مراتب هرم التقييم السياسي، تصرفت الدولة معها بشكل يختلف عما إذا كان تصنيفها متوسطا أو متدنيا.”

سياسيو الخط الأول في العراق فتحوا النار على حكومة محمد شياع السوداني خلال مرحلة التحضيرات للقمة، في محاولة لمنعه من الارتقاء إلى موقعهم بعد الانتخابات القادمة. وهكذا، يبدو أن بعض أصحاب المصلحة في الحفاظ على صعود السوداني زعيمًا قد ردّوا بفضيحة الميناء. تبادل النيران هذا أدى إلى خسارتهم لما تواطؤوا عليه منذ مدة، حين قرروا تقديم الميليشيات الإيرانية ككبش فداء لإيمانهم الدولي المتأخر. أرادوا أن يُثبتوا أنهم وصلوا إلى المرحلة التي أشار إليها روجر أوين، نقلا عن برونو إتيان، حين قال “إن من الديناميكيات المحتملة أن يحاول المسؤول السياسي الذي يتولى منصبا في السياسة القومية، معتمدا على تأييد جماعة مصالح مهمة، أن يقلل من اعتماده عليها بمرور الوقت.”

◄ انخفاض نسبة التمثيل الدبلوماسي للدول العربية في هذه القمة يمكن وصفه بمصطلح "التعب من الصراع"، الذي يهيمن على أروقة السياسات العراقية

زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى عواصم الخليج العربي غطّت بدورها على القمة. الأهم أن ترامب قد أصبح يمتلك الوقت والطاقة الدبلوماسية ليضرب النظام السياسي في بغداد على ركبتيه ويُقعّده أميركيًا. لن يكون في حاجةٍ إلى التهديد والوعيد، فبغداد على الأرجح سترسل حامل حقيبتها الدبلوماسية إلى واشنطن تحت يافطة ما، في وقت ليس بالبعيد أو القريب جدًا من الانتخابات القادمة المزمعة.

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين كان قد نجح في فبراير 2023، عندما زار الولايات المتحدة للتحضير لأعمال تعميق قناة “اتفاقية الإطار الإستراتيجي” – إذا صحت التسمية – من المستوى العسكري إلى مستويات أخرى، كالاقتصادية، في الاستيلاء على اهتمام صُنّاع القرار الأميركيين، من دبلوماسيين سابقين، ومراكز بحوث، وغيرهم، عبر تقديم آراء شيقة لهم، مثل “الإيرانيون باتوا يحترموننا أكثر،” و”العملية السياسية في العراق تستحق ثمنًا ما دام رؤساء الحكومات فيها أحياء ولم يُصفِّ بعضهم الآخر جسديا،” و”الحراك الشعبي ضد النظام في أكتوبر 2019 قام به ناشطون غير مدركين لما عاناه العراق زمن النظام السابق قبل 2003.” وليس مستبعدًا أن ينجح مرة ثانية، ولكن ليس بالحديث عن الاحترام والرؤساء الأحياء أو التقليل من شأن المعارضة، بل عبر الصفقات.

بغداد ستندفع إلى تطبيق نصيحة الكاردينال ريشيليو “تفاوض دون توقف، علانيةً أو خفاءً، وفي كل الأماكن.” البعيد نسبيًا هو يقين بعض المراقبين بأن واشنطن ستلجأ إلى رؤية النظام السياسي العراقي بثنائية الخير والشر، لأنها، وبحسب باسكال بونيفاس، لن تطبّق “معايير ديزني على العلاقات الدولية.” كما أن نخبة بغداد الحاكمة تعشق الصفقات مثل الرئيس ترامب، بل وتتفوّق على قارون في صناعة بقائها السياسي الحلال من المال العام.

 

اقرأ أيضا:

      • قمة بغداد تكشف الواقعين العربي والعراقي

      • من أفشل قمة بغداد

9