نساء يكتبن بأجسادهن نصوصا متمردة على الواقع

الجسد عمود الرحى في الكتابة ولا حرية دون إطلاق سراح رغباته.
الثلاثاء 2022/07/26
الجسد الأنثوي فاعل في الكتابة (لوحة للفنانة هيلدا حياري)

ليس الجسد بعيدا عن فعل إبداعي مثل الكتابة، رغم ادعاءات الكلاسيكيين بذلك؛ فهو يمثل في الأدب الحديث والمعاصر محور عملية الكتابة برمتها، في وجوده وكينونته وخصوصيته وحضوره، ولعل أبرز مثال على ذلك كتابات النساء.

لقد جعلت الحركة النسوية من سلاح الجسد سؤال الخصوصية الذي يقحم الذات طرفا أساسيا في مشروع الكتابة، فعكست بذلك أساسا وتوجها أنثويا جديدا يتفرد في الرؤية والتجربة، حيث اقترنت العلاقة بين الجسد والكتابة باقتران الوعي الفعلي بأهمية الجسد ومكانته والدور الذي يلعبه، والوعي الممكن في توظيف الجسد في الكتابة.

واستدعى هذا الوعي إلغاء دونية الجسد أو النظرة التي تجعل منه موطن الفتن، بالإضافة إلى تبني موقف جديد من الذات، أدى بدوره إلى انبثاق رؤية جديدة للعالم بعيون أنثوية، لذا عملت النساء على تفجير المسكوت عنه (الجسد والتعامل معه) بإعادة صياغة مضامينه اللاواعية في أقوال أدبية جمالية خلاقة.

واستطاعت الكتابة بذلك أن تنفس عن الكبت التاريخي المتعلق بقضية المرأة، فامتلكت بذلك الموروث الثقافي عبر استدعائه واستحضاره ونقده، مع إظهار زيف ما تم الترويج له في القصص والحكي الشفهي حول قيمة المرأة، والمغالطات التي كانت تحملها الكتب وفي اللاوعي الجماعي والفردي حول جسدها وتاريخها.

الكتابة والجسد

يعد الجسد عمود الرحى في الكتابة بعد إدراك تام أن تحرير الذات لن يتم إلا بإطلاق سراح رغبات الجسد والروح،  مما يفسر تمحور المرأة في مجتمعنا من خلال كتاباتها حول ذاتها في ظل التهديد الذي يتربص بهويتها، لهذا ستبقى على الدوام مشغولة بتأكيد وجودها واستقلالها وتفردها.

◙ الكتابة إما أن تكون انفتاحا للغة اللاوعي أو خضوعا للسلطة، في ظل ما تمنحه من فرص للتعبير
◙ الكتابة إما أن تكون انفتاحا للغة اللاوعي أو خضوعا للسلطة، في ظل ما تمنحه من فرص للتعبير

ولا يمكن أن يضعف هذا الهاجس الذاتي كما يقول حميد لحميداني “إلا عندما تختفي الشروط التي تهدد المرأة في حضورها الأنطولوجي”، رغم أنه مستبعد في الوقت الحالي نظرا إلى العقلية الذكورية التي تتحكم في بلورة شكل المرأة من حيث المظهر الخارجي وفي بناء وعيها، بهذا ظلت المرأة مهووسة بجسدها خصوصا غشاء البكارة الذي يعد رمز الشرف والقيمة كما هو الحال في ثقافتنا ووسطنا الاجتماعي في ظل الثنائيات التي تحكم جسد الأنثى: الشرف وفقدانه، المحافظة والانحلال، النجاسة والقداسة.

كل هذا يفسر تمحور المرأة حول جسدها وجعله محور الحياة، محددة بذلك علاقتها مع هذا العالم الخارجي من منظور علاقة سيكولوجية،  مما يفسر تركيز المرأة في الكتابة على الأحاسيس والمشاعر التي ظلت سجينة الذات، والتي كان يتم تصريفها بعيدا عن مجال الإبداع والبوح وكبت أزماتها داخليا بدلا من التعبير عنها في الواقع أو من خلال فعل الكتابة.

وقد خلص محمد نورالدين أفاية إلى كون “الكتابة إما أن تكون انفتاحا للغة اللاوعي أو خضوعا للسلطة”، في ظل ما تمنحه من فرص للتعبير عن خلجات النفس وإطلاق العنان للبوح والتحرر، مكسرة بذلك جدار الصمت وقيود العبودية، ليرقص الجسد الأنثوي على أنغام الكلمات، وعطر الأنوثة الذي أضحى المسيطر على عرش النص، في محاولة منها (المرأة) لإعادة بناء وجود وهوية جديدة.

كما تحضر علاقة الجسد بالكتابة في المكون السردي أساسا باعتباره تقنية مثلى تنجلي فيه ذات الكتابة وتطفو معها مكبوتات الوعي العقلية والجسدية، ذلك أن السرد القصصي والروائي يمكّن الساردة في النص من التعبير عن حالتها والهوية الحقيقية المدفونة في مكنوناتها والتي تتطلع إليها.

وإلى جانب توظيف الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية نجد الوظيفة التعبيرية التي تفسرها كارمن بستاني في مقالها حول “الرواية النسوية النسائية” بحضورها عند الكاتبات تفسيرا أيديولوجيا تاريخيا، إذ تقول “لقد كانت المرأة خلال عصور طويلة وما تزال تعاني من القلق على هويتها. ويوم أقدمت كوليت على توقيع مؤلفاتها باسمها الحقيقي أحرزت تقدما ملموسا في إطار معركتها من أجل الكتابة. بالتأكيد، بدا الربط بين الكتابة والهوية أمرا ضروريا بالنسبة إلى المرأة، وهذا ما يفسر كثرة ‘الأنا’ في الكتابة النسوية كرد فعل على التشكيك الدائم (الذي) كان يحيط بوجودها”.

وتغدو الكتابة بمثابة تمثيل للهوية النسائية ودليلا على وجودها ولو على أرضية النص الذي أصبح ممثلا للذات ومدافعا عن قيمة المرأة، هذا ما يجعلنا نتساءل إلى أي حد يمثل جسد النص جسد الأنثى؟ بل أكثر من ذلك كيف يمكن للنص الإبداعي أو النقدي أن يدل على هوية خالقه (المؤلفة)؟

قصص غير محايدة

يقول عبدالنور إدريس في كتابه “التمثلات الثقافية للجسد الأنثوي – الرواية النسائية أنموذجا” إن “دارسة الجسد الأنثوي من خلال النص السردي، تجعلنا مقتربين من الجسد النصي الذي ينوب عن المرأة، ويكتب عالمها بصدق، ذلك من حيث العلاقة الحميمية الحاصلة بين الجسد المكتوب وموضوع الكتابة، تلك العلاقة التي تحدد أساسا مع وصف الواقع وهو يتجلى في عالم الخيال، خاصة وأن الكتابة النسائية تحتوي على خصائص أساسية تتحكم في تلقيها، من حيث وضعها من قبل المتلقي(ة) ضمن سجل السيرة الذاتية والاعترافات، قبل منحها صفة وضعية الإبداع المتخيل، فالمرأة لهذا تجد في الحكاية منفذا للإنسانية”، بدل الواقع المجحف في حقها، مشكلة بذلك هوية جديدة، وبالتالي فإن المرأة تمتلك هويتين.

الهوية الأولى واقعية منبوذة من طرفها نظرا إلى ربط قيمتها بجسدها، والهوية الثانية تخييلية مرغوب فيها تتمثل على مستوى جسد النص. كما أن الكتابة النسائية ترتبط بمعضلة في الساحة النقدية عندما يتم ربط الإبداع النسوي بالسيرة الذاتية وبالخلجات الداخلية، في هذا السياق نفهم الأحكام النقدية التي يطلقها النقاد على الكتابة النسائية، حيث يصفونها بالخطابة والتقريرية، الشيء الذي يتحول مع قصص الكاتبات إلى مرافعات منبرية منفعلة، كما هو الشأن عند إدريس الناقوري، الذي يلتقط نفس الملاحظة حول كتابة خناثة بنونة بحيث يرى أنها أقرب إلى “خواطر ذاتية أو اعترافات”.

الجسد يحضر بشكل لافت في مجال الأدب وتوظفه المرأة الكاتبة عبر فعل الكتابة الذي يتطلب دراية ووعيا

كما أن نجيب العوفي يرى بدوره أن أسلوب خناثة بنونة يتميز “بتمويج التعبير وتهويمه على مستويات متوترة ومتراجحة”، وهذا راجع إلى الآراء التي يحملها الرجل عن الكتابة النسائية أو المرأة بصفة عامة، وبأسبقية الرجل في الكتابة بالجسد وتحديد هندسته، والذي كان يتحكم في معاير جمال الجسد الأنثوي من خلال عين الأدب، وشهادة التاريخ، والحكي الشفهي، بمعنى “أنه ليس هناك من قصة محايدة أخلاقيا. إن الأدب عبارة عن مختبر واسع تجري فيه التقديرات والتقييمات وأحكام الاستحسان والإدانة، وهناك تستخدم السردية كحقل تمهيدي للأخلاق”.

ويفسر ذلك حضور الجسد في مجال الأدب وتوظيفه من طرف المرأة الكاتبة عبر فعل الكتابة الذي يتطلب دراية ووعيا في توظيفه، إما وسيلة لإثبات الخصوصية وتكسير التصورات والمعتقدات التي جعلته في موضع التشكيك والإدانة، أو توظيفه من أجل لفت الانتباه واستغلاله فقط للدخول إلى مجال الأدب، مع العلم أن توظيف الجسد في أبجديات الإبداع والتعبير ليس بعنصر جديد ومفاجئ.

لكن عندما يتم تقديم رؤية جديدة ومغايرة لمفهوم الجسد وكيفية توظيفه في الخطاب الأدبي، يعطي ذلك أبعادا فنية جمالية من جهة، ومن جهة أخرى يفتح مجالا متعدد الرؤى والنقد فيما يتعلق بالفكر، بحيث يجعل الناقد أو المفكر يعيد النظر فيما راكمه من معرفة من خلال الاطلاع على الكتب التي أعطت أحادية الرؤية حول جسد المرأة.

ويرى عبدالنور إدريس أن “الكتابة بالجسد والتركيز على آلياته، وبعث الرغبة والشهوة في حنايا النص، تعتبر من بين التصورات التي حملها الرجل نثوءات اللغة والخطاب، وألحق وظيفتها بالأنثى”، فهذا دليل على أن الرجل والإبداع بصفة عامة الذي أنتجه ليس بريئا في خلق تصور شهواني حول جسد المرأة، وتحديد هندسته، وجعل المتلقي يكوّن تصورا حول هذا الجسد خاصة في لاوعيه.

فإشكالية الجسد الأنثوي وتوظيفه في مجال الإبداع لا تقف في حدود وصفه وإشعال الرغبة في ذهن المتلقي من خلال تسريده داخل النص، بل الغاية هي محاولة إعادة القيمة للجسد وتجاوزه كعائق في نفس الوقت، لأن جوهر المرأة لا ينحصر في جسدها، بل بوصفها جزءا لا يتجزأ من هذا الواقع، لا يختلف جسدها عن جسد الرجل في بعث الشهوة بدافع الفطرة، والقوة بدافع الوجود الفعلي.

13