نساء النهضة الجدد يحملن لواء الدين والمدنية معا

يدفع تجاوز بعض القيادات النسوية من الجيل الجديد لحركة النهضة لأدبيات الحزب الإسلامي المحافظ إلى التساؤل: هل أن النهضة تناور لإقناع الرأي العام المحلي والدولي أنها باتت حركة مدنية حتى تطمئن على تواجدها السياسي، أم أن نساء النهضة الجدد هن في الحقيقة علمانيات بغطاء رأس ومرد ذلك غلبة الهوية التونسية على القيم الوافدة من حركة الإخوان، وهي مرجعية لكل تيارات الإسلام السياسي بالعالم؟
تونس - جذب الحضور النسوي لحركة النهضة الأنظار إليه منذ انخراط الحركة في الحكم رسميا أعقاب ثورة يناير 2011. واللافت للنظر خصوصا هو الجيل الجديد (جيل ما بعد الثورة)، والذي يبدي انفتاحا وتحررا من قيود المرجعية الدينية التي يحتكم إليها الحزب وصقوره المتشددون.
أربكت الحركة الرأي العام عندما ترشحت سعاد عبدالرحيم، غير المحجبة، لانتخابات 23 أكتوبر 2011 كرئيسة قائمة النهضة في دائرة تونس الثانية الانتخابية، ثم زاد الجدل في الانتخابات البلدية لسنة 2018، عندما ظهرت طبيبة الأسنان سليمة بن سلطان، رئيسة قائمة حركة النهضة بسيدي بوسعيد بجينز ممزق على مستوى الركبتين.
لكن، بين هذين النموذجين، يوجد نموذج آخر، وهو الغالب، والذي يمثل نساء النهضة، ويقدم صورة أكثر إرباكا من شيخة مدينة تونس سعاد عبدالرحيم أو طبيبة الأسنان التي ترتدي أحدث صيحات الموضة، هذا الجيل هو جيل المحجبات اللاتي يدافعن عن قيم الدولة المدنية ومدونة الأحوال الشخصية بما في ذلك رفض تعدد الزوجات، كما أنهن لا يمانعن مصافحة الرجال ولا حديث لهن عن الضوابط الشرعية أو توظيف آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، على غرار “شيوخ” الإسلاميين.
يشبه البعض نساء النهضة بنساء حزب العدالة والتنمية التركي، حيث هناك تشابه في الثقافة التعليمية التي نشأ عليها الطرفان. فأغلب المنتميات إلى حركة النهضة اليوم درسن وفق النظام التعليمي الذي أرساه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ونشأن في كنف الدولة المدنية التي أرسى قواعدها؛ وبالمثل نشأت الأجيال الجديدة من نساء حزب العدالة والتنمية التركي على المبادئ الأتاتوركية.
تقر القيادية بحركة النهضة محرزية العبيدي بأن "النمط التونسي طاغ على نساء النهضة كما أن مسألة الحجاب أيضا لم تعد تعني حزبا معينا"
ويجد البعض في هذه النشأة مبررا لحالة التناقض الظاهرة في نشوء النهضة وكيف أن الهوية التونسية غلبت على القيم الوافدة، في إشارة إلى المبادئ التي رسختها أدبيات الحركات الإسلامية. وطرح هذا الأمر حالة من الجدل في الشارع التونسي، الذي صدرت إليه الفضائيات إسلاما مختلفا عن ذلك الذي تربى عليه، كما أثار جدلا في الأوساط الإسلامية “الذكورية” الخارجية، وأيضا جدلا آخر في صفوف المعارضين لحكم الإسلاميين والذين يصنفون هذا الجيل النسائي ضمن الآلة الدعائية للحركة الإسلامية.
ومن الأمثلة التي أثارت هذا الجدل، زيارة محرزية العبيدي، القيادية في حركة النهضة والنائب السابق لرئيس مجلس نواب الشعب (البرلمان)، إلى أحد أهم مصانع الخمور في تونس.
ودافعت العبيدي، حينها، وهي أبرز الوجوه النسائية للنهضة، عن زيارتها بالقول إن “هذه المعصرة تمثل نشاطا اقتصاديّا، ومن واجبي أن أزورها وأقدم الدعم لها كمشروع فلاحي هامّ”. وكان للناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي رأي آخر، حيث اتهموها بازدواجية الخطاب “باعتبارها قيادية في حزب إسلامي وما قامت به يخالف مبادئ حزبها”.
وكشفت أغلب نساء النهضة الجدد عن محدودية ثقافتهن الدينية، أو ربما هو الدور الذي سطر لهن داخل الحركة، حيث يكنّ درجة ثانية، ودورهن لا يتجاوز إضافة الألوان على صورة الحركة الإسلامية في بلد حقوق المرأة فيه مقدسة. ونتيجة لذلك، تعرضت تصريحات البعض من النهضاويات لانتقادات وسخرية في مواقع التواصل الاجتماعي لسطحيتها.
ورصدت “العرب” آراء شخصيات نسائية من حركة النهضة ومتابعين للشأن العام للإجابة عن التساؤل حول هذا التناقض وهل أن نساء النهضة الجدد إسلاميات متدينات أم هن علمانيات بغطاء رأس.
تونسيات قبل كل شيء
قدمت القيادات النسوية للجيل الجديد لحركة النهضة نموذجا مغايرا عن الصورة النمطية للمرأة السياسية التي تشارك بحركة إسلامية لسبب رئيسي وهو طغيان النمط المجتمعي التونسي على سلوكهن ومظهرن، فهن ينتمين سياسيا لحركة لكن ليس بالضرورة يقتدين بتوجهات الحركة المحافظة.
وقد يكون النمط التونسي غرس فيهن بشكل عفوي لنشأتهن في بلد عرف باعتداله وانفتاحه منذ استقلاله، فالوجوه النسائية الجديدة بالحركة من أجيال وهي فترة كرست الاهتمام بحقوق النساء وغلب عليها الطابع الحداثي.
وتقر القيادية البارزة بحركة النهضة محرزية العبيدي لـ”العرب” بأن “النمط التونسي طاغ على نساء النهضة كما أن مسألة الحجاب أيضا لم تعد تعني حزبا معينا”. وتضيف “نحن تونسيات في طريقة ارتدائنا للحجاب وسنبقى دوما تونسيات منفتحات على الآخر في طموحنا وعملنا وحرصنا على التواجد في الحياة العامة”.
وتقول العبيدي “لدينا عدد لا بأس به من المنخرطات بالحركة من غير المحجبات، لكن نلتقي معهن في الفكرة والمشروع”.
وأكدت أن “الحركة توسع في قاعدتها النسائية لأنها حزب في دولة مدنية”، مؤكدة بقولها “نشتغل حسب مشروع ورؤية ولا نمثل فئة معينة لذلك هناك انفتاح على المجتمع بفئاته النسوية”.
ويتسق رأي العبيدي مع رأي النائبة عن حركة النهضة يمينة الزغلامي، التي قالت لـ”العرب”، إن “نساء النهضة يمثلن النمط التونسي الزيتوني المعتدل والمنفتح على الآخر”. وأشارت إلى أن “الحركة تطورت وهي ملتزمة بالدفاع عن المرأة الكادحة. نحن كقيادات نسوية دافعن عن حقوق النساء في مؤتمر الحركة الأخير”، لافتة إلى أن “الثورة سمحت لنساء النهضة بالمشاركة أكثر بالشأن العام”.
وظهر انفتاح الحركة على النساء غير المحجبات في الانتخابات المحلية في مايو الماضي، ورشحتهن في قوائمها كمستقلات في خطوة عرضتها لانتقادات واسعة، إذ بدت وكأنها تستغل صورة المرأة المتحررة لاستقطاب الناخب في حين أنها تتمسك بمرجعياتها المحافظة.
وعلى العكس، تقول سناء مرسني، النائبة عن حركة النهضة لـ”العرب” إن “مفهوم الانفتاح غير مرتبط بنمط تونسي أو غيره، فالجيل الجديد من شابات النهضة يعشن اليوم زمن الانتقال الديمقراطي، وهن منفتحات ليس لأن النمط التونسي فرض ذلك ولكن لأنهن منفتحات بطبيعتهن وهذا لا يعني أن هناك جيلا قديما منغلقا”.
ورغم صعوبة فترة الانتقال الديمقراطي التي تمر بها تونس بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي في يناير 2011 على مستوى سياسي واقتصادي واجتماعي، لكنها تميزت في المقابل بانتعاش مناخ الحريات العامة والفردية أمام تزايد ملفت للمرأة على الشأن العام وانخراطها في العمل الحزبي.
وتضيف المرسني قائلة “أنا على الأقل عايشت مرحلة تأسيس دستور الجمهورية الثانية في يناير 2014 لم أكن من المنخرطات القدامى في حركة النهضة. ترشحت على قائمتها في 2011 و2014 ومن خلال تجربتي أعتبرها أكثر حزب منفتح تنتمي إليه شرائح متنوعة من النساء المحجبات وغير المحجبات”.
والمثير للانتباه أن حضور النساء بكتلة حركة النهضة الإسلامية فاق بقية الأحزاب الأخرى في مرحلة الانتقال الديمقراطي، فمن مجموع 49 امرأة كان للحركة 42، فيما توزّعت النائبات الـ7 على بقية الكتل البرلمانية. لكن لا يعني انفتاح الحركة على النساء أنها تراجعت عن مبادئها المحافظة.
ولا تنكر المرسني أن “داخل الحركة توجد بعض الأفكار المحافظة والمحافظة جدا في قضايا مجتمعية معينة لكن التشبيب الذي يتم داخلها حاليا والانفتاح على فئات أخرى من المجتمع يسمحان بتحولها وتغيرها لتصبح أكثر ما يمكن حركة تونسية مئة بالمئة”.
وتلفت النائبة عن حركة النهضة حياة العمري، وهي قيادية شابة لا ترتدي الحجاب، في تصريحها لـ”العرب” إلى أن “النهضة تريد أن تستوعب كل الأطياف التونسية، وأن نساء الحركة يعملن في مناخ ديمقراطي”.
قواعد متشددة
أمام الضغوط التي تواجهها حركات الإسلام السياسي، ومن بينها النهضة، دوليا ومحليا، تجد النهضة نفسها مطالبة بالتسويق لنموذج حزبي جديد. ويتوقع المتابعون أن يكون هناك اهتمام بالعنصر النسائي داخل حركة النهضة للتسويق لهذا النموذج وإظهار انفتاحها.
لكن، هذا “الانفتاح” ليس محل إجماع داخل قواعد الحركة؛ وسياسة الاعتماد على العنصر النسائي بشكل أكبر ليست بمنأى عن الانقسامات الداخلية للحركة وصراع الأجنحة. وتشرح الباحثة والمحللة السياسية شيماء عيسى لـ”العرب” ذلك بقولها إن “هناك أكثر من تيار داخل الحركة: التيار المتشدد مثل القيادية ليلى الوسلاتي وقيادات نسائية أخرى معتدلة تحمل لواء الدين ولواء الحقوق والمدنية أيضا”.
وتضيف أن “القيادات النسوية مختلفة في مسائل المساواة والميراث مثلا ولكن نسبيا.. هناك من يدعن الحريات وهناك من ترى أن هذه المسألة ليست أولوية حاليا”.
وتوضح أن “هناك مرجعيات مختلفة داخل الحركة ليس فقط الشق المتشدد بل هناك جيل من النهضويات اشتغلن في المجتمع المدني، خارج تونس، (خلال فترة زين العابدين بن علي) وبعودتهن وجدن صعوبات لانتقادهن بشكل متواصل من الداخل”. وتعتقد عيسى أن النمط المجتمعي يفرض نفسه على عموم التونسيين وليس فقط على نساء حركة النهضة.
وترى الباحثة التونسية أن محاولات التغيير تصطدم بقواعدها المتشددة، موضحة أن “القيادات محكومة بالقواعد التي مازالت متمسكة بالمرجعيات القديمة”.
وانتقد مراقبون استعمال النهضة للحجاب وإضفاء بعد حزبي عليه منذ مشاركتها في الحكم، إذ أنه أفرز تفرقة بين التونسيات، وهو ما جعل الحركة تراجع نفسها وتحاول أن تنفتح على النساء غير المحجبات وتحفزهن على الانخراط ضمن الحركة لكسب ثقة وتأييد شعبيين.
وتشير راضية الجربي رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية في تصريحها لـ”العرب”، إلى أن “النهضة بدأت في مراجعة نفسها عن طريق بعض أصوات المحجبات اللاتي يحملن فكرا نيرا ومستنيرا تقدميا”. وتذكّر بـ”الثنائيات والتمييز الذي ظهر مع بروز النهضة في الحكم بين النساء المحجبات وغير المحجبات وهي تفرقة دخيلة على الثقافة التونسية”. وتضيف “بعد الثورة أصبح للحجاب بعد سياسي في حين لا علاقة له بالتحزب”.
وتستدرك بقولها إن “هناك قيادات من حركة النهضة لهن مواقف تقدمية ومتحررة وأثرت إيجابيا على قيادتها”، لافتة إلى أن النمط المجتمعي يسيطر على الجيل الجديد من النهضة لأنه نمط معتدل ولذلك طغت على الكثيرات منهن مظاهر الوسطية.
ورغم محاولات الحركة تبديد مخاوف الرأي العام بأنها لن تهدد علمانية الدولة ففي كل مرة تبدو على استعداد لاسترضاء شركائها في الحكم والشارع على حد السواء بأنها تسير على خطى المدنية أملا في الحفاظ على موقعها في السلطة، يشير بعض المتابعين إلى أن ما تبديه بعض نساء الحركة من تطور جزء من براغماتية الحزب ومناورة سياسية.
ويقول المفكر التونسي يوسف الصديق لـ”العرب” إن “الحركات الإسلامية ككل لا تتحدث إلا عن المناورات إذ أن كل ما يتصل بالمسرح السياسي تناور لأجله حتى تكون صاحبة مشروع قوي”. ويضيف “من التكتيك العادي إلى التكتيك التأويلي.. هذا التيار دائما مناور”. وفي معرض تعليقه عن الجيل النسوي الجديد من الحركة يعتقد الصديق أنه “ينقصهن عنصر مهم جدا وهو التفكير في ما يقدم لهم من نصوص ووقائع”.
ويشرح وجهة نظره قائلا “لا أعتقد أن النصوص الدينية تؤثر على السياسة لذلك لا بد من إخلاء الفضاء العام من السياسة حتى يتحقق الآمن والسلم الاجتماعي”.
وعن رأيه إذا كانت الحركة فعلا تطورت أم لم تتطور، يقول الصديق إنها “لم تتطور بعد بسبب مشكلاتها الداخلية.. والمطلوب من الحركة أن تصبح مدنية فقط.. فأن تقول إنها حزب سياسي ثم تناقش مسألة المساواة في الميراث فذلك ليس من مشمولات الحزب السياسي”.