نساء إيران كيف كتبن سطور الفصل الأخير لسلطة الاستعباد

"العبيد لا يخسرون شيئا في الثورة إلا أغلالهم" عبارة تنطبق على واقع الحال الراهن في إيران، فالمظالم التي تتعرض لها المرأة في إيران لا يمكن إضافة المزيد من القهر والاضطهاد إليها.
الأربعاء 2022/11/30
الطابع التحرري العريض للانتفاضة يجعلها عصية على الانكسار

ما من ثورة إلا وتصنع نموذجها الخاص. وفي الغالب، فإن الشكل الذي يأخذه أي حراك شعبي عريض للتغيير، ينطلق من اعتباراتٍ تجسدُ فهما شعبيا وغير منطوق للواقع، قبل أن يُصبح مسارا. وهذا ما يحصل في إيران. فالانتفاضة التي تقودها النساء، تستند حصرا إلى الفهم القائل إن النساء لا يغضبن إلا عن وجه حق، وإنهن أبعد ما يكنّ عن الاتهامات بارتكاب أعمال عنف، وأنهن ينطقن عن هموم معيشية ملموسة، وإن هناك حاجزا اجتماعيا وثقافيا يمنع الاعتداء عليهن.

هذا “الفهم” هو عبارة عن قناعات عامة تنشأ في “الوعي الجمعي”، وفي الغالب لا يجري الحديث عنها، كما لا تلتقطها وسائل الإعلام، لأنها رمادية، ومتفرقة، وليست ملساء كما هو الحال في القضايا التي تتحول إلى “أخبار” و”موضوعات” يجري الحديث عنها في المنتديات العامة.

النساء الإيرانيات يعرفن ما هو حجم “القوة المسلحة” التي يملكها النظام، ولكنهن يُدركن بوعيهن الخاص أنهن يملكن قوة الغطاء الاجتماعي، وقوة الصوت الأنثوي، وقوة الثقافة التي تستنكر التعرض لهن.

هذا “الفهم” يتحول الآن إلى أداة دافعة لاستمرار الانتفاضة.

في المقابل، استخدم الحرس الثوري سلاح الاغتصاب، والقتل من بعد الاغتصاب على أساس “فهم” مضاد للترويع. إلا أنه لم ينجح، لأن مجرد اعتقال أي فتاة أو امرأة أخرى هو بمثابة إعادة تدوير للأزمة من حيثما انطلقت عندما توفيت الشابة مهسا أميني في مركز لـ”شرطة الأخلاق”.

◘ ابنة أخت علي خامنئي فريدة مراد خاني التي نددت بجرائم النظام ووصفته بأنه "قاتل أطفال" ليست سوى صوت واحد من أصوات كثيرة لم يتردد صداها بعد

وعلى الرغم من أن السلطات الإيرانية تبذل جهدا خارقا من أجل إثبات أن التحرك الراهن مدفوع من الخارج، وأنه مؤامرة تنظمها الولايات المتحدة، إلا أن هذا الاتهام إذا كان قابلا للاستيعاب في انتفاضة يتصدرها الرجال، فإنه دعاية لا يصدقها أحد في إيران، لأن النساء الإيرانيات لا تنطبق عليهن شبهات من هذا النوع، ولأن المظالم التي يتعرضن لها محلية خالصة، ولأن الإكراهات اليومية التي يواجهنها في الشارع وفي أماكن العمل هي إكراهات من صنع النظام نفسه.

خروج النساء في إيران للمشاركة في الانتفاضة ضد نظام الملالي ليس جديدا. فقد شاركت النساء في جميع التحركات الاحتجاجية السابقة، ومنها انتفاضة العام 2009 ضد تزوير الانتخابات، وانتفاضة العام 2019 ضد ارتفاع أسعار المحروقات، وغيرها. ولكن هذه هي المرة الأولى التي يلعبن فيها دور القائد والمحرّك. الرجال موجودون في الساحة، إلا أنهم يتحركون من الصف الخلفي. وهذا نوع من “تدبير” يعبر عن “تسوية” لوجستية لاستدامة التحرك، ويجسد في الوقت نفسه “الفهم” المضمر القائل إن النساء “قوة” لا يسع النظام مواجهتها بوسائله التي قمع بها الانتفاضات السابقة.

المجتمع الإيراني محافظ بطبيعته، ما يُغني سلطة الملالي عن فرض المزيد من القيود على النساء. إلا أن هذه السلطة تمارس سطوتها انطلاقا من اعتبارات “أبوية” و”ذكورية”، لا علاقة لها بقيم المحافظة والأخلاقيات الدينية السائدة في المجتمع.

نساء إيران يفهمن جيدا هذه “الأبوية” و”الذكورية” التي تحط من قدر المرأة، وتعتبرها مجرد أداة “متعة”. وهن ينتفضن ضدها أيضا، وليس فقط ضد منظومة المظالم التي يتعرض لها المجتمع الإيراني ككل.

وإذ أصبح بوسعهن الاحتجاج، فمن غير المتوقع أن يتراجعن من دون تحقيق مكاسب، لأن التراجع سوف يعني هزيمة اجتماعية لهن، تزيد في واقع الحط والاحتقار والإهانة الذي خرجن ليخلعن الحجاب عنه.

الاحترام والمساواة ليسا جزءا من “المطالب” المتداولة في الانتفاضة الراهنة، إلا أن شعار “المرأة، الحياة، الحرية” يحتوي على إشارات كافية للدلالة عليهما حصرا. كما أنه يؤشر إلى شيئين آخرين: الأول، إن الانتفاضة مدنية واجتماعية أكثر منها سياسية. ما يشكل قوة لا تستطيع ميليشيات النظام مواجهتها بنفس القدرة على ارتكاب مجازر. والثاني، هو أنها انتفاضة حقوق عامة، تتعلق بالأوضاع الحياتية المباشرة لكل منزل في إيران.

هناك مَنْ يُرجع أصول هذا الشعار الثلاثي إلى الثقافة التحررية الكردية على اعتبار أن أصله (جين، جيان، آزادي)، قبل أن يُصبح بالفارسية (ژن، ژیان، ئازادی).إلا أن التبني الفارسي لهذا الشعار أضاف إيحاءات أخرى لا تقل أهمية. ومنها أن معركة الحرية واحدة بين كل شعوب إيران، وأن الانتفاضة في كردستان إيران ليست عملا انفصاليا، وأن حقوق المرأة عابرة للأقليات.

النساء الكرديات كن في الطليعة في غير مكان، على أي حال. وهو ما سمح لهن بأن يتقدمن الصفوف في محاربة تنظيم داعش في سوريا، وفي المشاركة في الكفاح الكردي من أجل العدالة والمواطنة المتساوية في تركيا، الأمر الذي جعل تحركهن في مواجهة الطغيان في إيران امتدادا طبيعيا لمطالب المرأة بالحياة والحرية.

الطابع التحرري العريض للانتفاضة الراهنة هو ما يجعلها عصية على الانكسار. والمطالب التي رافقتها بالدعوة إلى إسقاط النظام لم تنطلق بالدرجة الأولى من أساس سياسي وإنما من أساس اجتماعي. وهو ما يجعلها تكتسب قوة قابلة للتمدد في كل منزل، بما فيها منازل النظام نفسه.

ابنة أخت علي خامنئي فريدة مراد خاني التي نددت بجرائم النظام ووصفته بأنه “قاتل أطفال” ليست سوى صوت واحد من أصوات كثيرة لم يتردد صداها بعد.

الأساس السياسي قابل للجدل، إلا أن الأساس الاجتماعي صارم وعريض ولا يُقهر. وهو ما يبرر الاعتقاد بأن نظام الولي الفقيه لن يقوى على مقاومته، وأنه هو من يجب أن يقدم له التنازلات.

◘ النساء الإيرانيات يعرفن ما هو حجم “القوة المسلحة” التي يملكها النظام، ولكنهن يُدركن بوعيهن الخاص أنهن يملكن قوة الغطاء الاجتماعي، وقوة الصوت الأنثوي، وقوة الثقافة التي تستنكر التعرض لهن

القاعدة التي تقول إن “العبيد لا يخسرون شيئا في الثورة، إلا أغلالهم” تنطبق على واقع الحال الراهن في إيران، فالمظالم التي تتعرض لها المرأة في إيران لا يمكن إضافة المزيد من القهر والاضطهاد إليها، ولا تخسر النسوة في الانتفاضة ضدها إلا أغلالهن.

ولكن تقديم التنازلات هو المأزق الأعمق. إنه من أكبر التحديات التي واجهها نظام الولي الفقيه على الإطلاق. حتى الحرب ضد العراق ما كانت تشكل مأزقا بهذا العمق، ولا الحروب الأخرى التي أدامها في سوريا واليمن، أو التي صنعت الكارثة الشاملة في لبنان. كل ذلك كان يمكن الخروج منه بالمزيد من العنف إلا هذا المأزق. إنه مع نساء الدار، في كل دار. وهو يعرف أن أي تنازل سيكون بمثابة “بداية النهاية” له. أولا، لأنه سوف يستدعي تقديم المزيد من التنازلات. وثانيا، لأنه سوف يمنح الاحتجاجات انتصارا ساحقا على أسلحته وميليشياته. وثالثا، لأنه سوف يزعزع أركان المؤسسة الحاكمة نفسها ويُغرقها في انقسامات سوف تؤدي في النهاية إلى انهيارها. ورابعا، لأنه لن يجد تبريرا “فقهيا” يتناسب مع ما قد يضطر إليه.

نساء إيران يرين، ككل نساء المنطقة، المكانة التي تحتلها المرأة في العالم. ولا تفعل ثقافة الاستعباد التي تمارسها سلطة الولي الفقيه سوى أن تدفع بالمزيد منهن، من الجيل الجديد على نحو خاص، إلى تغذية الانتفاضة بكل ما تحتاجه من مقومات البقاء والمقاومة.

الفارق الحاسم هو أن الطالبات في المدارس والجامعات اللواتي يتقدمن على زملائهن في الاحتجاجات يُجردن ميليشيات النظام من قدرتها على إطلاق النار. أصواتهن أعلى أثرا من لعلعة الرصاص، وأكثر استقطابا للتعاطف على مدار الأرض.

وهذا، بكل المعاني، شيء جديد، وهو ما يصنع للثورة في إيران نموذجها الخاص، ويؤهلها لكي تكتب سطور الفصل الأخير لسلطة الاستبداد والاستعباد.

8