نزيهة سليم ابنة الخيال العائلي الذي يصنع رسامين

أتأمل صورة تعود إلى خمسينات القرن الماضي. رواد الرسم الحديث في العراق تتوسطهم الفنانة نزيهة سليم. الصورة تقول أشياء مختلفة عن العراق وعنها. تلك المرأة التي ورثت الموهبة والانفتاح على العالم والرغبة في التنوير.
كانت قدوة للبغداديات اللواتي قررن أن ينهين عصر الذكورة المطلقة ويدرسن ويعملن ويرفعن أصواتهن بالدعوة إلى أن تأخذ المرأة مكانتها في المجتمع.
هي ابنة عائلتها وابنة عصرها في الوقت نفسه. والدها الحاج سليم كان رساما وإخوتها الأربعة رشاد وسعاد وجواد ونزار صاروا رسامين بتأثير مباشر من الأب. لن تفعل شيئا إضافيا لكي تكون رسامة. لقد ولدت وهي ترسم. وهي أصغر من أخيها جواد بسبع سنين. لذلك اتبعت خطاه في كل ما كان قد سعى له. كل ما كان يفكر فيه كان حاضرا في فنها، لكن بمسحة أنثوية ومن خلال موضوعات مستلهمة من بيئة نسوية.
لست هنا في صدد المقارنة بين فنها وفن أخيها الذي يعتبر الأب الحقيقي للحداثة الفنية في العراق. ذلك أمر لا يجوز. لا بسبب المسافة الكبيرة التي تفصل بين فنيهما وحسب، بل وأيضا بسبب أن نزيهة نفسها ما كان لها أن تكون فنانة حديثة لولا أنها التزمت حرفيا بمبادئ الرسم التي حاول جواد أن يرسخها في الحياة الثقافية البغدادية ما بين أربعينات القرن الماضي وخمسيناته.
البغدادية البرجوازية
مثل عدد آخر من أعضاء جماعة بغداد للفن الحديث التي أسسها أخوها جواد عام 1952 كانت نزيهة ملحقة بالجماعة، غير أن وجودها مع البريطانية لورنا وهي زوجة جواد في الجماعة وظهورهما بالملابس الأوروبية في الصورة التي أشرت إليها كان إشارة تاريخية موفقة إلى ما كانت تعيشه بغداد يومها من انفتاح على العالم الخارجي.
ليست سليم هي الفنانة العراقية الأولى التي عرضت أعمالها في معارض جماعية في زمن لم يكن فيه المعرض الشخصي معروفا كتقليد فني، لكن يمكن اعتبارها ظاهرة تاريخية لأنها احترفت الفن وجعلت منه مهنتها الوحيدة.
سليم ابنة جيل محظوظ باستقرار سياسي وهوية وطنية تخطت الانتماءات الدينية والإثنية، بحيث أن البعثة الدراسية الواحدة كانت تضم العربي المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والكردي والتركماني
رسمت المرأة البغدادية، لكن في إطار وعيها البرجوازي وهو ما سمح لها به وجودها في عائلة ضابط عثماني سابق. غير أن ما رسمته يظل مثيرا من جهة تعبيره عن نزعة حداثوية محكومة بأطر محلية، كان أخوها جواد في حقيقة ما أنجزه قد تجاوزها.
ولكن ما معنى أن يحتفي محرك البحث غوغل مبكرا بنزيهة سليم؟ أعتقد أن هناك شعورا عالميا بتغييب المرأة العراقية. لقد انتهى عصر التنوير وعادت المرأة العراقية إلى العصور المظلمة. قبل ثلاثة عقود التقيتها في بيت العائلة بالوزيرية كانت سعيدة لأن أحدا تذكرها. كانت مثالية في تواضعها.
ولدت سليم عام 1927 في إسطنبول لأبوين عراقيين. كان شغفها بالفن جزءا من تراث العائلة، إضافة إلى أن والدها كان رساما وقام بتدريس الرسم. وحين أسس أخوها جواد جماعة بغداد للفن الحديث في 1952 كانت عضوا فيها وعرضت أعمالها في معارضها وهو ما دفعها إلى التأثر بالمنطلقات النظرية لتلك الجماعة التي لم تعش طويلا.
تجربتها في بعدها التاريخي
تخرجت من معهد الفنون الجميلة عام 1947 ومن ثم ذهبت في منحة دراسية إلى باريس وكانت أول امرأة عراقية تذهب إلى الخارج لدراسة الفن. عام 1951 تخرجت من البوزار بباريس بعد أن تخصصت في رسم الجداريات وكان الفنان الفرنسي الشهير فرناند ليجيه أحد معلميها. ولو أنها تأثرت بليجيه لكانت قد أحدثت تحولا فنيا في العراق يوازي التحول الذي أحدثه أخوها، ولكن شيئا من ذلك لم يقع. عادت نزيهة من باريس لتكون جزءا من العائلة.
تقول في ما تتذكره "أذكر مرة أنني عرضت على أخي جواد لوحتي (سوق الصاغة) وكان أسلوبها يتبع أسلوبه أي بغدادياته، فأدار وجهه ونظر بعصبية قائلا: لماذا تقلدين عملي؟ قلت: لأنني أحببت هذا الأسلوب. فقال: لن يصدق الناس أنها من عملك وسيقولون إنني رسمتها ووضعت عليها اسمك".
نزيهة لم يكن لها أن تكون فنانة حديثة لولا أنها التزمت حرفيا بمبادئ الرسم التي حاول شقيقها جواد أن يرسخها في الحياة الثقافية البغدادية ما بين أربعينات القرن الماضي وخمسيناته
بخطوط متقشفة وزهد بالألوان رسمت محيطها. بغدادها التي هي من اختراع أخيها كما سيكتب في ما بعد بعض النقاد. ولأنها امرأة فقد كانت للنساء الحصة الأكبر من تلك البغداد. نساء رسمتهن نزيهة بما سيذكر بها دائما. وبالرغم مما ورد على لسانها من كلام أخيها فإنها نجحت إلى حد ما في الوصول إلى أسلوبها الشخصي، وإن بتفاصيل صغيرة قد لا تكون مؤثرة على مستوى المشهد التشكيلي العام، ودائما كانت أهميتها في مكان آخر غير المكان الذي أنجزت فيه أعمالها الفنية.
كان ظهورها رسامة محترفة في حد ذاته حدثا تاريخيا، كما أن كونها المرأة العراقية الأولى التي سافرت إلى خارج العراق لدراسة الفن قد وضعها بين أسماء الفاتحات وهي رائدة في تدريس مادة الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد. البعد التاريخي لا يُخفى في تجربتها الإنسانية قبل تجربتها الفنية. هناك نقطة جوهرية تجمعها بسواها من فناني منتصف القرن الماضي العراقيين ممَن التفوا حول شقيقها، تكمن في تأثرهم العميق بأسلوب الفنان الرائد. بينما كانت هي ظاهرة تاريخية ذات بعد فني وليس العكس. أي أنها لم تكن ظاهرة فنية بسبب موهبتها المحدودة. ولكن أكان لزاما أن يصبح أفراد العائلة كلهم فنانين؟
إلهام مرحلة
تنتمي سليم إلى جيل الحداثة الفنية الرائد. ذلك جيل طليعي تعهد بالتنوير وسط أجواء متفائلة عمت فئات معينة من الشعب العراقي وهي فئات نخبوية كانت بغداد هي محور حركتها. يومها لم تكن بغداد كبيرة وكثيفة السكان ولم تتعرض لغزو الريف والبادية.
في ذلك الواقع كان ظهورها وسط الرواد يمثل لحظة انتصار للمرأة العراقية وهي تسعى لنيل حريتها عن طريق الفن. تلك فكرة تبناها الطليعيون الذين تمتعوا بتشجيع مباشر من الطبقة السياسية وعلى رأسها أفراد العائلة المالكة الذين كان البعض منهم يرعى المناسبات واللقاءات الفنية بل إن الملك قام غير مرة بتخصيص منح دراسية لفنانين للدراسة في الخارج كما حدث مع فائق حسن وجواد سليم وجميل حمودي وإسماعيل الشيخلي ونزيهة نفسها.
احتفاء محرك البحث غوغل بنزيهة سليم يعكس شعورا عالميا بتغييب المرأة العراقية. لقد انتهى عصر التنوير وعادت المرأة العراقية إلى العصور المظلمة
كانت ابنة جيل محظوظ باستقرار سياسي وهوية وطنية تتخطى الانتماءات الدينية والإثنية. بحيث أن البعثة الدراسية الواحدة كانت تضم العربي المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي والكردي والتركماني. كانت نزيهة بغدادية في رسومها (حسب ما كان متداولا نقديا يومها) غير أن ذلك لم يكن سوى واجهة لعراق، كان من وجهة نظر النخب الطليعية مقبلا على عصر ازدهار جديد.
لقد رسمت متأثرة بإلهام تلك المرحلة. وهي مرحلة متفائلة ظهرت فيها المرأة العراقية باعتبارها شريكا في بناء الحياة وتصنيع صورة المستقبل. لذلك تتسم لوحاتها بالهدوء وهي تنقل أحوال النساء وأحاديثهن في الغرف الجانبية. كل لوحة من لوحاتها هي حكاية منفردة مفتوحة على حكايات ستليها مثلما هي رسوم الواسطي في مقامات الحريري.
المرأة التي احتفى محرك البحث غوغل بمئويتها مبكرا كانت تمثل جزءا من حقيقة العراق التي طُمست بعد الغزو الأميركي عام 2003. ربما أراد غوغل أن يقول ذلك.