نزوى سيف الرحبي

عبر الثلاثين سنة كتب الرحبي الكثير من الشعر المدهش، وسافر بين أصقاع الأرض، فكان له في كل محطة كتاب يقول الحياة كما لو أنها قصيدة.
السبت 2024/08/24
شاعر صنع مجلة تشبهه وتتشبه ببلاده

ونزوى أيضا مدينة عمانية ساحرة، يدخل إليها المرء فيشعر أن التاريخ خفيف هو الآخر، تتساقط أوراقه مثلما يغفل المسافر عن حقائبه في مواجهة الجمال.

ومثل نزوى المدينة كانت المجلة التي أسسها الشاعر الجوال سيف الرحبي قبل ثلاثين سنة ووضع فيها رؤية القارئ الذي يحلم بالتغيير وهو يمشي في اتجاه نقطة ضوء، هناك حيث تقع حياته الحقيقية.

عبر الثلاثين سنة كتب الرحبي الكثير من الشعر المدهش، وسافر بين أصقاع الأرض، فكان له في كل محطة كتاب يقول الحياة كما لو أنها قصيدة، غير أنه كان في الوقت نفسه يرعى مجلته بعيني المتمرد القلقتين ويدي المثقف الناعمتين. أرادها كيانا متصلا ومنفصلا في الوقت نفسه.

 تتصل بما سبقها من مجلات أدبية بحداثة بنيتها وتنفصل عن الماضي بشغف الانتقال من الحداثة إلى ما بعدها. الحكمة التي تحمل رأس مفكر وتمشي بقدمي طفل.

صنع سيف الرحبي مجلة تشبهه وتتشبه ببلاده عُمان التي تمتد في الجغرافيا أفقيا وتخترق التاريخ عموديا.

في ظرف سنوات قليلة انتهت مهمة الشاعر فكانت نزوى قلعة الحداثة الأدبية العربية التي تتجسد فيها رؤى يوسف الخال في مجلته “شعر” وطموح سهيل إدريس في مجلته “الآداب” وقلق توفيق صايغ في مجلته “حوار”.

كل هذا تركته نزوى وراءها لتمضي وراء فارسها الرحبي مثل ظل له. كانت حمامته التي خلق لها أجنحة ورقية كتبها بضوء عينيه.

حلقت نزوى في فضاء الأدب العربي كما لم تفعل مجلة سبقتها وكانت صندوق حداثته ولغزها الذي يزداد نضارة عددا بعد آخر.

من خلالها أثبت الرحبي أن في إمكان الشاعر أن يفعل أشياء كثيرة غير كتابة الشعر. غير أن كل تلك الأشياء لا تستمد حيويتها إلا من قوة الشعر.

بعد سنوات من إنهائه المهمة قرر الشاعر أن يتوارى عن الأنظار ويترك مجلته للآخرين الذين تتلمذوا بين أروقتها. ترك الرحبي العمل في المجلة وهو يعرف أن العمارة التي شيدها ستزيد من لمعانها الذي يشير إلى حقول الجمال التي تسللت إلى مادة بنائها وصارت جزءا منه.

يليق بالثقافة العربية الحديثة أن تنحني تحية للشاعر الذي وهبها زمنا أسطوريا حين أحاطت بها انهيارات الواقع وسعت إلى وأدها.

مثلما أرادها لم تكن نزوى مجرد مجلة أدبية بل كانت مشروعا امتد به خيط الشعر إلى آفاق بعيدة، الجزء الأكبر منها لا يزال يتستر بخفائه. وهو الجزء الذي سيخلق مستقبلها على أيدي مبتكري صورتها المتجددة. شكرا سيف الرحبي.     

18