"نزلاء الحراش".. رواية تدخل أشهر سجن جزائري يجمع رموز النظام السابق

لعل أهم ما يحمل بذرات وجينات التميز عند الروائي الجزائري الحبيب السائح هو امتلاكه لقدرة عجيبة على المزج بين الواقع والتاريخ بشكل سلس وتلقائي ومستساغ ينمّ عن وعي كبير بأهمية الحفر الفني في ثنايا وخفايا التاريخ والنبش في مغاوره. وفي هذا اللقاء معه يطرح الروائي العديد من المواضيع منها خاصة هاجس الكتابة عن التاريخ واستحضار أهم عناصره.
الجزائر- يقول الروائي الجزائري الحبيب السائح إن روايته “نزلاء الحراش” تتوقف عند سجناء لهم صلة بالفساد السياسي والمالي في تاريخ بلاده المعاصر، الذين يجمعهم السجن الأكثر شهرة في الدولة.
جاء ذلك في مقابلة معه حول روايته الجديدة “نزلاء الحراش”، ومواضيع أخرى مثل الكتابة التاريخية، وملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا. وصدرت الرواية نهاية سبتمبر الماضي عن دار “مسكيلياني” في بيروت، ومنشورات “ضمّة” الجزائرية (خاصة)، وجاءت في 306 صفحات.
رواية من السجن
يقول السائح إنّه يفضل أن “يكتب قصة قصيرة، أو فصلا من رواية، على أن يقدم فكرة أو ملخصا عن أحد أعماله”، مضيفا “إني أرتبك ولا أعرف كيف أجمع تفاصيل رواية”.
ويشير إلى أن روايته تتحدث عن السجناء المدانين في مختلف الجنح والجنايات والجرائم المدنية والسياسية “الذين يجمعهم السجن الأكثر شهرة في الجزائر من حيث سمعته وقسوته وتاريخه، الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية (1830 ـ 1962)”.

الرواية تتحدث عن سجناء يجمعهم السجن الأكثر شهرة في الجزائر من حيث سمعته وقسوته وتاريخه
ويرى السائح أنها “إحدى المفارقات في تاريخ الجزائر المعاصر ذي الصلة بالفساد السياسي والمالي، وبالصراع على السلطة، بمختلف أوجهه حتى المسلح منه”.
ويلفت إلى أن أحداث الرواية تناولت مراحل؛ غداة الاستقلال (1962) أو خلال العشرية الحمراء (سنوات التسعينات)، ومثلما وقع في حراك الثاني والعشرين من فبراير 2019، الذي بإسقاطه الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة سلميا، جنّب الدولة حالة الانهيار.
ووفق السائح “يكون سجن الحراش البؤرة المكانية والزمانية لتلك المفارقة”.
و”سجن الحراش” ثاني أقدم سجن بعد “سركاجي”، ويقع على بعد 10 كلم جنوب العاصمة، بطاقة استيعاب تقدر بأكثر من ألفي سجين وفق إحصاءات رسمية.
وعقب حراك شعبي أطاح بالرئيس بوتفليفة في الثاني من أبريل 2019، أودع بهذا السجن رئيسا وزراء من حقبته هما: أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال، إضافة إلى وزراء ومحافظين ورجال أعمال، إثر تحقيقات في قضايا فساد.
روائي أم مؤرخ
حول ما إذا كان ما يكتبه تأريخا وتوثيقا، يوضح السائح أن الروائي اليوم أصبح يسبق المؤرخ بمسافة زمنية معينة في ما يتصل بمجريات واقعه السياسي والاجتماعي والأخلاقي، ولكنه لا يحل محله.
ويشير إلى أنّ فعله كروائي تقديم شهادة فحسب بواسطة السرد التخييلي وليس حقائق كما يقدمها المؤرخ.
ويبيّن أن كلا من الروائي والمؤرخ “إن اتفق كل منهما على الاشتغال سرديا على المادة نفسها، للفترة ذاتها، وعلى الفاعلين أنفسهم، فإنهما بالضرورة سيختلفان في الرؤية وفي التناول وفي الأسلوب”.
ويستطرد “إذ يغدو هامش الروائي أكبر بالنسبة إلى المؤرخ، فالأول يمنحه الجنس الروائي أن يُعمِل خياله، فيضيف أو يحور أو يستعير. أما الثاني فيسرد الحقائق كما وقعت”.
ويستدرك السائح “لكن المؤرخ غالبا لا يستطيع التحوير أو الاستعارة، كما هو الشأن مثلا عن تاريخ حربنا التحررية (1954 ـ 1962). وهنا يتدخل الروائي لسرد بعضها تخييليا”.
ويذكر صاحب رواية “زهوة” أنه ألمح إلى ما قدمه في رواياته “كولونيل الزّْبَرْبرْ”، “أنا وحاييم”، و”ما رواه الرئيس” وفي “نزلاء الحراش”، معتبرا أن مثل هذه النصوص ليست تأريخا بل هي من التاريخ. وليست وثائق تأريخية بل شهادات على التاريخ.
الكتّاب وحرب الذاكرة

بشأن رأيه في قرار فرنسا فتح أرشيف الثورة الجزائرية قبل 15 عاما عن موعده القانوني، يقول السائح إن “فرنسا على قدر ما تفتحه من أرشيف، لأسباب سياسية ابتزازية، لن تستطيع الكشف عن مجمل جرائمها كالإبادة الجماعية”.
وفي الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي أعلنت فرنسا، في مرسوم صادر عن وزارة الثقافة، نشرته الصحيفة الرسمية، فتح الأرشيف المتعلق بالقضايا القانونية وتحقيقات الشرطة في حرب التحرير الجزائرية خلال الحقبة الاستعمارية.
ويضيف السائح أن الجرائم وقعت خلال فترات الاحتلال الأولى، وارتكبت فرنسا “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أثناء حرب التحرير، بالتقتيل والتعذيب الممنهجين وبالاغتصاب”.
ويستطرد “يبقى من واجبي، وواجب الذاكرة عليّ، بصفتي جزائريا، التذكير في كل مناسبة سياسية أو تاريخية بأفعال فرنسا الاستعمارية بحق الشعب، التي لن تطوى في ذاكرتي شعبي البلدين إلا باعتراف فرنسا الرسمية بتلك الجرائم”.
☚ الروائي يسبق المؤرخ في ما يتصل بمجريات واقعه السياسي والاجتماعي والأخلاقي ولكنه لا يمكن أن يحل محله
وبحسب السائح “يصبح من الواجب على الكتّاب الجزائريين، تجاه تاريخهم، أن يكونوا الطليعة في خوض حرب الذاكرة التي تشنها اليوم فرنسا الرسمية على وجودنا كأمة، بكتاباتهم ومواقفهم استكمالا لتضحيات آبائهم وأجدادهم”.
ويذكر الروائي الجزائري أنّه كان أحد الأطفال الشهود على نهايات مرحلة حرب التحرير، بصفته من عائلة عرفت القهر الذي سلطه الاستعمار عليها، لأن بيتهم كان مأوى لجيش التحرير وأخويه (أحدهما شهيد) وكذا أخواله وأعمامه كانوا في جيش التحرير.
وبخصوص روايته “أنا وحاييم”، التي تحكي قصة إنسانية بين مسلم ويهودي (جزائريين) بدأت إبّان الاستعمار الفرنسي، يوضح السائح أن الوجود اليهودي في الجزائر يعود إلى عمق التاريخ.
ويعتبر أن اليهود ظلّوا ضمن نسيج الجزائر الاجتماعي والديني والثقافي حتى كان “قانون كريميو” 1870 (تجنيس يهود الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي) وحرب التحرير.
وبحسبه، فإن “قانون كريميو” وثورة التحرير “عاملان أثرا على علاقة الطائفة اليهودية ببقية الجزائريين، بحيث اختارت الأغلبية منها التجنس (بالفرنسية)، ولاحقا الاصطفاف إلى جانب الاستعمار أو الهجرة إلى فلسطين المحتلة”.
ويعتبر أن “قلة من الطائفة اليهودية ظلت وفية لوطنها الجزائر، معادية للحركة الصهيونية، وقدمت شهداء خلال حرب التحرير”، على حد قوله.
وبالنسبة إلى نظرته إلى راهن ومستقبل بلاده، يلفت السائح إلى أنّ جزائر اليوم تغيرت بشكل لافت منذ الثاني والعشرين من فبراير 2019. (في إشارة إلى الحراك الشعبي).
ويوضح “لم تعد هي الجزائر التي كانت قبل هذا التاريخ، ولن تعود إليه، فما قدمه أبناؤها وبناتها خلال الحراك على مدى شهور أحدث تحولا حاسما في علاقة السلطة بالمواطن”.
الكاتب يؤكد أن اليهود ظلوا ضمن نسيج الجزائر الاجتماعي والديني والثقافي حتى كان "قانون كريميو" ثم حرب التحرير
ويعتبر أن الحراك الشعبي “كرّس معطى الدولة، فأصبحت مطالب الحريات الفردية والجماعية، وحرية الصحافة، واستقلالية القضاء ومحاربة الفساد، من أوليات ما ينبغي لأي سياسة أو حكومة أن تأخذه في الاعتبار”. ويلمح إلى أن “هذا لا يُغفل أبدا أنه ترتبت على الحراك نتائج سلبية منها الملاحقات والسجن بسبب الرأي”.
ويذكر أن الحبيب السائح كاتب وروائي جزائري من مواليد عام 1950 بمحافظة معسكر (غرب)، صدرت له، إلى جانب مجموعات قصصية، 10 روايات منها “الموت في وهران”، و”تلك المحبة”، و”ما رواه الرئيس” وغيرها.
وتوج السائح في 2019 بجائزة كتارا (قطر) للرواية، في فئة الرواية المنشورة، عن روايته “أنا وحاييم”، كما بلغ هذا العمل القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية.