نداءات المثقفين العرب مستمرة: علموا الأطفال الفلسفة

مسألة تعميم الفلسفة على كل المستويات العمرية تبدو ضرورة ملحة لضمان تجدد الأفكار والرؤى في مختلف المجالات.
الجمعة 2022/02/04
الطفولة أرض خصبة للتساؤل والتقصي (لوحة للفنانة هيا حلاو)

عمان - إلى جانب تعريف الفلسفة بكونها “محبة الحكمة”، أو تلك الدهشة التي دفعت الإنسان وجعلته يفكر ويطرح الأسئلة بخصوص الوجود والطبيعة، فمن أهم الصفات التي ترتبط بالفلسفة كون أنها “فن للعيش”، أي طريقة مثلى للعيش السوي والإيجابي وتأمل العالم والحياة.

فلاسفة كثر إلى جانب رسم أنساقهم الفكرية المجردة قد اقترحوا سبلا صحية ونفسية وجسدية للعيش، وطرقا للتفكير المعتدل بعيدا عن أي تعصب قد يؤدي بصاحبه إلى التهلكة النفسية والجسدية.

وفي هذا الصدد جاءت دعوات كثيرة من مثقفين عرب لتعليم الفلسفة منذ فترة الطفولة، وذلك إيمانا بدورها في ترسيخ التساؤل والمعرفة وثقافة الحوار والنقد والنقاش التي تخلق في النهاية مجتمعات منفتحة، وتقي من الانغلاق والتعصب وهما سمتان شابتا الكثير من المجتمعات العربية.

أدب الأطفال من قصص وروايات بنهايات مفتوحة أو تتضمن شيئا غير مألوف تحفز على التفكير والخيال لدى الأطفال

وتؤكد على دور الفلسفة أستاذة علم النفس التربوي الأردنية أسيل الشوارب التي ناقشت في محاضرة نظمتها مؤخرا الجمعية الفلسفية الأردنية تعليم الفلسفة للأطفال باعتبارها خطوة أولى على طريق التربية الإبداعية، والتربية الديمقراطية، والتربية الأخلاقية.

وما تزال الكثير من أصوات المثقفين العرب تنادي باستمرار بحاجتنا اليوم إلى الفلسفة، حاجة لا تتعلق بتدريسها داخل “أسوار الأكاديمية” فحسب، بل بتلقينها للأطفال منذ بداية النشأة داخل مدارس التعليم الأولي والابتدائي، إذ أنه ليس للفلسفة عمر محدد للتلقين؛ أي نعم تختلف مستويات التعلم لدى الأطفال حسب الأعمار إلا أن الفلسفة قادرة على تكييف نفسها تبعا لتلك المراحل التعليمية، وصولا إلى مرحلة التجريد: تجريد المفاهيم.

وبدورها أشارت الشوارب في محاضرتها بعنوان “فلسفة ملونة” إلى منهج أستاذ علم المنطق ماثيو ليبمان في خمسينات القرن الماضي، الذي انطلق من ملاحظته العملية حول طلبة الجامعات الذين تنقصهم مهارات طرح الأسئلة والقدرة على الاستدلال.

وانتقل ليبمان إلى طلبة المدارس، بحسب الشوارب، حيث أسس ما أسماه مجتمع التساؤل أو التقصي، بالاستناد إلى أسلوب الفيلسوف الإغريقي سقراط في توليد الأسئلة التي يمكن من خلالها نقل المعرفة، اعتمادا على أسئلة الأطفال أنفسهم حول مواضيع ترتبط بواقعهم ضمن مناخات من الحرية في الحوار والنقاش.

وأوضحت خلال المحاضرة، أن هذا المنهج يلجأ إلى أدب الأطفال تحديدا عبر اختيار قصص وروايات تحمل نهايات مفتوحة، أو تتضمن شيئا غير مألوف في حياتهم، من أجل إثارة التفكير وتحفيز الخيال لديهم، وهو ما يمكن استخدامه في تدريس جميع التخصصات من لغة ورياضيات وجغرافيا وتاريخ وعلوم.

وأكدت أن تعليم الفلسفة لا يرتبط بفئة عمرية محددة، إذ يبدأ الطفل في التقصي عند مواجهة تناقض أو إشكال يتطلب تأملا دقيقا، وهو ما لا يستطيع المنهاج أن يقدمه إذا طرح بشكل حقائق واضحة ومحسومة، ثم تتطور لغة الطفل من الحوار مع الآخر إلى الحوار الذاتي أو التفكير الداخلي.

تعميم الفلسفة

واعتبرت أن تعليم الفلسفة للأطفال ينطلق من اكتشاف الأثر المدهش لأدوات الاستفهام ضمن منهج حواري ديمقراطي بعيدا عن طبقية التعليم التي تفترض وجود معلّم ومتعلّم، فكلاهما يقف على مستوى واحد من التفاعل والتعلم من بعضهما بعضا.

وعرضت الشوارب نظريات النمو التي بنيت عليها المناهج الدراسية المعاصرة، أهمها النظرية البنيوية حول مراحل التعليم التي تبدأ بمرحلة حسية حركية منذ ولادة الطفل حتى بلوغه العامين، ثم مرحلة ما قبل العمليات العقلية حيث تكون مفاهيم الطفل غير مكتملة حتى يبلغ السادسة، ويليها مرحلة العمليات المادية حتى الثانية عشرة من عمره، حيث يدخل عالم التفكير المجرد.

وجاء هذا التصنيف ضمن العديد من المراحل، خوفا من الأسئلة التي قد يطرحها الطفل قبل وصوله إلى المرحلة الأخيرة، مقابل نظرية أخرى تبرز الطفل ككائن ضمن السياق الاجتماعي الثقافي الذي يعيش فيه والتي تؤهله لخوض حوار فلسفي.

وفي زمننا المعاصر ارتفعت أصوات عديدة تدعو إلى العودة إلى ما تسميه “الفلسفة الشعبية”، في ارتباط بما سبق وأن أعلنه ديدرو، قائلا “دعونا نسارع إلى جعل الفلسفة شعبية (شائعة)”، إذ كان طموحه أن ينزل بالفلسفة من أسوارها العالية إلى العامة، للحد من الظلامية و”الغموض الذي لا طائل منه”، كما يقول.

ولذا تبدو مسألة تعميم الفلسفة على كل المستويات العمرية والخروج بها من النطاق الأكاديمي التقليدي ضرورة ملحة لتحصين المجتمعات العربية من التعصب والتطرف وضمان تجدد الأفكار والرؤى في مختلف المجالات.

13