نجيب محفوظ من الرواية إلى الشاشة

الأديب الوحيد الذي ارتبطت وظيفته ارتباطا مباشرا بالسينما.
الأحد 2023/06/25
أكثر الأدباء المصريين أعمالا في السينما

ارتبط اسم الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ ارتباطا وثيقا بالسينما، إذ اشتغل فيها كاتبا للسيناريو والقصص، بينما اقتبست من أعماله العديد من الأفلام، وهو ما ساهم في تطوير كتاباته من جهة وفي تطوير السينما من جهة أخرى.

يعالج هاشم النحاس مشكلة العلاقة بين الفيلم والرواية المأخوذة عنه عند نجيب محفوظ. ويختار في كتابه “نجيب محفوظ على الشاشة” – الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (248 صفحة) – فيلم “بداية ونهاية” باعتباره أصدق الأفلام المأخوذة عن روايات محفوظ حتى تاريخ كتابة بحثه.

ولكن قبل هذا يتحدث النحاس عن دور نجيب محفوظ في السينما المصرية بعامة، ويزعم أن انتشار محفوظ عن طريق السينما رفع من انتشاره في مجال الأدب نفسه. ويؤكد أن نجيب محفوظ أول أديب يكتب للسينما، وأنه أكثر الأدباء المصريين أعمالا في السينما. وقد بلغت الأفلام التي أخذت عن أعماله الأدبية المنشورة (قصة أو رواية) 36 فيلما (حتى تاريخ صدور الكتاب في طبعته الثانية عام 1990).

ثلاث مجموعات

أفلام نجيب محفوظ تمثل في قمتها أرفع مستويات السينما العربية، وقد وفرت للمخرجين تقديم أفضل أعمالهم

يوضح النحاس أن محفوظ هو الأديب الوحيد الذي ارتبطت وظيفته ارتباطا مباشرا بالسينما منذ عام 1959 حتى إحالته على المعاش سنة 1971، وأتيح له ذلك أن يترك أثرا قويّا في هذا الحقل.

ويقسّم النحاس أفلام نجيب محفوظ إلى ثلاث مجموعات: الأولى هي الأفلام التي كتب لها مباشرة السيناريو أو القصة، أو هما معًا، أو شارك في كتابة السيناريو لها مع آخرين. والثانية هي الأفلام التي أُخذت عن رواياته، والثالثة هي الأفلام التي أُخذت عن قصصه الأدبية القصيرة المنشورة.

ومن أفلام المجموعة الأولى يرى النحاس أن فيلم “ذات الوجهين” جاء محاولة غير موفقة لتقديم حالة نفسية من حالات انفصام الشخصية.

ومن أفلام هذه المجموعة “مغامرات عنتر وعبلة” 1948 و”جميلة الجزائرية” 1959 و”الناصر صلاح الدين” 1963، بالإضافة إلى قصتين من قصص إحسان عبدالقدوس هما “الطريق المسدود” 1958، و”أنا حرة” 1959 وفيهما حرص نجيب محفوظ على أن يكون أمينًا في نقل أفكار إحسان عبدالقدوس على حساب شخصيته.

ونضيف إلى هذه الأفلام السابقة “لك يوم يا ظالم” 1951، و”ريا وسكينة” 1953، و”الوحش” 1954، و”شباب امرأة” 1955، و”الفتوة” 1957، و”بين السماء والأرض” 1959.

f

وعن “ريّا وسكينة” يوضح هاشم النحاس أنه كانت المحاولة الأولى في تاريخ السينما المصرية أن يستمد فيلم موضوعه من حادثة واقعية. ثم كررها نجيب محفوظ بعد ذلك أكثر من مرة، فكان بهذا رائدًا أيضا في السينما المصرية.

أيضا نجد ضمن هذه المجموعة أفلامًا من أمثال “جعلوني مجرما” 1954، و”النمرود” 1956، و”احنا التلامذة” 1959، و”درب المهابيل” 1955، و”فتوات الحسينية” 1954، و”الهاربة” 1985، و”المذنبون” 1976.

ومن خلال هذه المجموعة من الأفلام يخرج الناقد هاشم النحاس بسماتٍ مشتركة منها: أن الديكور أو المكان الذي تدور فيه الأحداث يكون غالبا داخل الحواري والأزقة، وأن الشخصيات التي يقدمها محفوظ في هذه الأفلام معظمها شخصيات ضعيفة ومطحونة وجائعة للمال. كما تتسم هذه الأفلام بالواقعية والنقد الاجتماعي والمسحة الميلودرامية. ويرى النحاس أن نجيب محفوظ هو كاتب السيناريو الوحيد في مصر الذي استطاع أن يفرض شخصيته على الفيلم.

أما أفلام المجموعة الثانية، وهي الأفلام المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ، فيوضح النحاس أن محفوظ كان يرفض أن يكتب سيناريوهات الأفلام المأخوذة عن أعماله الأدبية، فهو يرى أن من الصعب عليه باعتباره كاتبها أن يتخلص من أسرها الأدبي له، مما يضر بالفيلم نفسه الذي يؤخذ عنها.

ويؤكد النحاس أن “بداية ونهاية” 1960 هو أول الأفلام المأخوذة عن رواية لنجيب محفوظ. ثم ظهرت أفلام “زقاق المدق”، و”بين القصرين” 1964، و”القاهرة 30″ 1966، و”خان الخليلي” 1966، و”قصر الشوق” 1967، و”الطريق” 1965 و”السمان والخريف” 1968، و”ميرامار” 1969 و”اللص والكلاب” 1963، وهنا أصحح معلومة وردت في الكتاب حيث ذكر المؤلف أن بطل “اللص والكلاب” هو “رشدي أباظة” (ص 29)، في حين أن بطله هو “شكري سرحان”.

انتشار محفوظ عن طريق السينما رفع من انتشاره في مجال الأدب نفسه إذ كان أول أديب يكتب للسينما

هذا إلى جانب أفلام أخرى مثل “الحب تحت المطر”، و”أهل القمة” و”الشيطان يعظ”، و”السراب” 1970، و”ثرثرة فوق النيل” 1971، و”السكرية” 1973، و”الشحات” 1973، و”الحب تحت المطر” 1975، و”الكرنك” 1975.

أما الأفلام المأخوذة عن القصة، فهي فيلم “الشريدة” 1980 المأخوذ عن إحدى قصص المجموعة “همس الجنون” التي طبعت عام 1938، ثم ظهر فيلم “أميرة حبي أنا” 1974 المأخوذ عن إحدى قصص مجموعة “المرايا”. كما أخذت عدة أفلام عن “ملحمة الحرافيش”، و”أهل القمة” المأخوذ عن إحدى قصص مجموعة “الحب فوق هضبة الهرم”، وفيلم “أيوب” المأخوذ عن إحدى قصص المجموعة “الشيطان يعظ”، ثم “الحب فوق هضبة الهرم”، وفيلم “الخادمة”، و”دنيا الله” 1985، وفيلم “الجوع” 1986، و”وكالة البلح” 1983، و”شهد الملكة” 1985 المأخوذ عن الحرافيش، و”المطارد” 1985 و”التوت والنبوت” 1986، و”الحرافيش” 1986، و”أصدقاء الشيطان” 1988.

البناء الروائي والفيلمي

أفلام محفوظ راسخة في الذاكرة (فيلم "القاهرة 30")
أفلام محفوظ راسخة في الذاكرة (فيلم "القاهرة 30")

إنها رحلة طويلة من الأعمال الإبداعية – وإن اختلفت مستوياتها – تمتد على مسار الزمن ابتداء من عام 1945 (وحتى تاريخ تأليف هذا الكتاب) بلغت في مجملها 60 فيلما، وهو ما يوازي إنتاج دولة في كل تاريخها، ويزيد عن إنتاج دول كثيرة في هذا المجال. وهو ما دفع المؤلف إلى أن يقول “لن نبالغ إذا ادعينا أن عملاق الأدب الحائز على جائزة نوبل عن أعماله الأدبية، كان وجوده – ولا يزال – عملاقًا كذلك في السينما العربية”.

ويرى النحاس أن أفلام نجيب محفوظ تمثل في قمتها أرفع مستويات السينما العربية، وأنها وفرت للمخرجين تقديم أفضل أعمالهم، ووفرت للممثل أيضا القيام بأفضل أدواره، وأن جيشا كبيرا من نجوم السينما وجدوا لأنفسهم أدوارا مهمة في أفلام محفوظ.

ويشير المؤلف إلى أن من يريد أن يعرف القاهرة: أحياءها القديمة، وقلب المدينة الحديثة، وناس المدينة خاصة الفقراء من أبناء البلد والأفندية وخريجي الجامعة، ومشاكلهم ومعاناتهم، وتمزقاتهم، وما يدور في أذهانهم، أجيال القاهرة من الحرب العالمية حتى الآن (وقت صدور الكتاب) وتاريخ المدينة الاجتماعي المعاصر، كل ذلك نجده في أدب نجيب محفوظ، كما نجده في أفلامه، بغض النظر عن اختلاف المستوى بينها.

ب

ثم يتوقف المؤلف هاشم النحاس عند البناء الروائي والبناء الفيلمي، ويوضح أن الأسلوب السينمائي أشبه بأسلوب الرواية منه بأسلوب المسرحية. ويرى أنه ستبقى حقيقة التشابه بين تحول أسلوب نجيب محفوظ في رواياته الأخيرة، وتحول السرد الروائي الحديث عموما، وتحول السينما على أثر الموجة الجديدة، تشابها قائما بلا جدال.

ويستعرض المؤلف مشكلة المجاز بين لغة الأدب ولغة السينما، ومشكلة الزمان والمكان، متوقفا عند الشعور الداخلي، والبناء الزمني، والزمن التاريخي أو الحسابي، والزمن النفسي والاختلاف في معدل سرعته، والزمن النفسي والسيولة الزمنية، كما يتوقف عند مشكلة الجمهور.

أما فصل “بداية ونهاية” بين الرواية والفيلم، فيورد فيه المؤلف تتابع المشاهد التي وصلت إلى 71 مشهدا، ثم يتحدث عن العلاقة بين “بداية ونهاية” و”القاهرة 30″، ويرى أن “القاهرة 30” من أفضل أفلام المخرج صلاح أبوسيف، ويضع قبله “بداية ونهاية”. وتسوقه المقارنة بين هذين الفيلمين إلى أحد العوامل الفنية المهمة التي تقرر عدم صلاحية ترجمة أي رواية إلى عمل سينمائي على نفس المستوى من الدقة في الترجمة. ويرجع ذلك إلى بعض الخلافات الجوهرية في البناء لكل من الرواية والفيلم.

ويقرر النحاس أن “بداية ونهاية” أقرب إلى النص من “القاهرة 30” رغم أن المخرج أخرج “القاهرة 30” بعد “بداية ونهاية” بما لا يقل عن خمس سنوات.

ي

وبعد ذلك يدخل المؤلف في المقارنة التحليلية بين “بداية ونهاية” الرواية والفيلم، متوقفا عند المميزات السينمائية للرواية، والمشاكل الفنية للفيلم، مؤكدا أن الأحداث الأساسية إذا كانت بمثابة العظام في الجسم، فالأحداث الفرعية والتحليلات النفسية هي التي تكسوها باللحم والدم وتمنحها الحرارة.

ثم يتحدث عن مرحلة الإعداد السينمائي، موضحا البناء المعماري للأحداث بين الفيلم والرواية، وتكثيف الأحداث بالحذف من القصة، والإضافات الجديدة للقصة، والتعبير بالحركة الظاهرية، ذلك أن للرواية قيمتها ومتعتها، وللفيلم قيمته ومتعته، وهو ما يحفظ للرواية مكانتها حتى بعد ظهور الفيلم.

كما يشير النحاس إلى التعبير بالشكل الفني، فبتحويل التعبير المباشر عن الحياة الباطنية إلى إشارات خارجية نصبح إزاء تجربة أخرى مختلفة تماما، حتى لو اعترفنا بإمكانية الظاهر على ترجمة الباطن، والظاهر وحده هو الحدود التي تنحصر فيها حركة الفيلم.

ثم يقوم النحاس بتحليل الشخصيات بين الفيلم والرواية، وهي: حسنين (الأناني المتطلع) فهو الشخصية الأولى في الرواية وفي الفيلم معا. وهو لا ينتحر في الرواية كما انتحر في الفيلم. ونفيسة (عاهرة في النهاية). وحسن (ابن الشارع). وحسين (الغيري). والأم (رأس الأسرة).

وقبل أن يغادر النحاس كتابه، يضع بين أيدينا دراسات متفرقة للمراجعة والتطبيق، ومنها دراسة عن الحوار والشخصية في “الطريق”، والحوار وإخراج مشاهد الحوار في “قصر الشوق”، وشخصيات “ميرامار” بين الرواية والفيلم: طلبة مرزوق، ومنصور باهي، وحسني علام، وسرحان البحيري، وعامر وجدي، موضحا أنه لم يعد في الفيلم من شخصية عامر وجدي الرواية غير شبحها، وإن احتفظ له بمشاعر الأبوة نحو زهرة. وشخصية محمود أبوالعباس، وأخيرا شخصية زهرة التي اختار لها الفيلم الزواج بمحمود أبوالعباس، وهنا يتسع الخلاف بين زهرة الفيلم، وزهرة الرواية، لنجد أن الفيلم يسلخ عن زهرة أبعادها الأساسية في الرواية، وبذلك يؤكد النحاس أن زهرة الفيلم تصبح شيئا آخر تماما لا يشترك مع زهرة الرواية إلا في الاسم.

10