نبيل عيوش.. مخرج يمزق بمهارة قشرة المجتمع

بدأ نبيل عيوش مسيرته الإخراجية بتقديم أفلام تتعامل مع قضايا اجتماعية شائكة تكسر المحظورات التي طالما حرصت السينما العربية على تجنبها، كونه يتناول قضايا مثل الدعارة والمثلية الجنسية، متسائلًا عن حدود الحرية الشخصية في مجتمع تحكمه التقاليد الصارمة.
يتضح ذلك في فيلمه “الزين اللي فيك” (2015)، الذي يطرح قضية النساء العاملات في الدعارة، إذ يقدم واقعًا قاسيًا لا يخفي وراءه أي محاولة للتجميل، ولا يختبئ عيوش خلف الدبلوماسية الفنية، ويواجه الجمهور بمشاهد تحاكي الواقع في قسوة، يثير دائما جدلاً واسعًا على الصعيدين المحلي والدولي، ويتحدى الخطوط الحمراء التي رسمتها السينما المغربية في التعامل مع مواضيع كهذه، مقارنةً بمخرجين آخرين، يفضلون معالجة الموضوعات الاجتماعية بأسلوب أكثر تحفظًا.
يبقى عيوش في مصاف المخرجين الذين يسعون لتحريك المياه الراكدة عبر طرح القضايا بشكل صادم وواقعي. ويخوض في عالم الهوية الثقافية المغربية، ويركز على المعاناة الفردية التي يعيشها المواطن المغربي في مواجهة التحديات الاجتماعية والنفسية، كما فعلت زوجته المخرجة مريم التوزاني في فيلمها “آدم” (2019)، عندما صورت معاناة نساء مغربيات في أجواء معتمة مليئة بالقيود الاجتماعية التي تضعها الثقافة التقليدية.
مقاربة مختلفة

يناقش المخرج نبيل عيوش عادة صراع الشخصيات بين التقليد والحداثة، معتمدًا على سرد واقعي يُظهر الشخصيات في حياتها اليومية وسط مدينة مزدحمة ومليئة بالقيود، ويرفض أن تكون السينما المغربية مجرد أداة للاحتفاء بالتقاليد أو تصوير الصورة المثالية للمجتمع.
وبالمقارنة مع مخرجين آخرين مثل حسن بنجلون، الذي يميل إلى تقديم صورة أكثر هدوءًا عن الحياة المغربية، يبرز عيوش كأحد المخرجين الذين يحاولون تمزيق القشرة التي يغلف بها المجتمع المغربي واقعه، ليدفع الجمهور إلى إعادة النظر في واقعه.
ويعتمد عيوش أسلوبًا سينمائيًا صارمًا يتجنب الزخرفات البصرية التي قد تشتت الانتباه عن الجوهر، ففي “علي زاوا” يتجنب الاستعراضات البصرية ويعرض الكاميرا كأداة لرصد كيف تنشأ التوترات الاجتماعية المشتعلة من قلب الشارع، ليُظهر الواقع كما هو بكل قسوته.
وهذه المقاربة تختلف تمامًا عن المخرجين الذين يلجأون إلى تقنيات تصويرية متطورة لخلق أجواء أكثر رقيًا وجمالًا، مثل عبدالسلام الكلاعي الذي يفضل التصوير الفني الجمالي الذي يعزز النواحي الإنسانية في أفلامه، أما في أعمال عيوش فيصبح التصوير جزءًا لا يتجزأ من عملية الكشف عن الحقائق المظلمة التي يخبئها المجتمع في زواياه المغلقة، إذ يعمل على تصوير الشخصيات في لحظات ضعفها، ليمنح الفيلم بعدًا إنسانيًا واقعيا.
التناول الرمزي
يستخدم عيوش الرمزية في أفلامه بشكل محكم ليُثرِي السرد ويرفعه إلى مستوى أعلى من مجرد تقارير عن واقع اجتماعي، ففي في فيلم “يا خيل الله” تكون الرمزية جزءًا من بناء الحبكة العاطفية والنفسية، فالرمزية في هذا السياق تُستخدم لتوضيح حالة الحصار التي تشعر بها الشخصيات الرجالية داخل المجتمع الملغوم فكريا، خاصة في إطار تقاليد صارمة تحدّ من خياراتها في الحياة.
ومقارنةً بالمخرجين الذين يعمدون إلى تيسير الرمزية لجعلها في متناول الجمهور مثل هشام العسري، يثبت عيوش أن الرمزية يمكن أن تكون أداة نقدية تُلجئ المشاهد إلى تحليل المشاهد بعمق، وبهذا الشكل يعرض المخرج نبيل عيوش الرمزية كوسيلة لفهم الشخصيات والمواقف في الفيلم من زوايا متعددة.
ويمثل عيوش السينما المغربية في المهرجانات الدولية بقدرة لافتة، مبرزًا قضايا المجتمع المغربي في محافل لا تقتصر على الدوائر المحلية، فأفلامه تتجاوز الأفكار الجغرافية والثقافية، لتعرض في مهرجانات عالمية مثل “كان” و”البندقية”، نظرا إلى أهمية الموضوعات التي يتناولها والتأثير الذي تتركه أفلامه على الجمهور الدولي.
ويختلف عن مخرجين آخرين يظل تأثيرهم محصورًا في الدوائر المحلية أو الإقليمية، إذ يبقى نبيل عيوش قادراً على الوصول إلى جمهور عالمي، بينما يظل مخرجون آخرون بعيدين عن التأثير الدولي، بسبب موضوعات أفلامهم التي تقتصر على المواضيع التي يراها الجمهور المحلي أكثر قبولًا.

وينقض عيوش على الطابع النفسي للشخصيات نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وشخصيا، مقدمًا أفلامًا تُظهر تفاعلات معقدة بين الناس، ففي “علي زاوا” (2000) يطرح قصة طفل مشرد في الشوارع، ويبين فيها الجانب النفسي من خلال توظيف مشاهد شديدة الحساسية تبرز آلام الأبطال، ويوضح الطبيعة الإنسانية لشخصياته بتفاصيل دقيقة تظهر المخاوف والطموحات والهواجس التي تتخلل حياتها، ويختلف عيوش هنا عن مخرجين مثل نوفل البيراوي وإدريس شويكة اللذين يميلان إلى التركيز على السرد الاجتماعي ويقللان من التركيز على الأبعاد النفسية.
ويتناول المخرج دور الرجل في المجتمع المغربي من خلال عدسة نقدية تفضح الصورة التقليدية التي كثيرًا ما تروجها السينما الشعبية، ففي أفلامه لا يبرز الرجل ككائن قوي مسيطر، حينما يتنقل بين حالات التسلط والضعف، وهذا يُبرز التناقضات الداخلية التي يتعامل معها الرجل المغربي في حياته اليومية. نأخذ مثلا فيلم “الزين اللي فيك”، ففيه يبرز الرجل كمكون أساسي في العلاقات الاجتماعية، خاصة في علاقته بالنساء، ولكن بشكل يبرز هشاشة النساء في مواجهة الواقع القاسي.
التنوع الثقافي
نبيل عيوش هو مخرج أفلام، وكاتب سيناريو، ومنتج فرنسي من أصل مغربي، وُلد في باريس لعائلة متعددة الثقافات، فوالده هو المفكر نورالدين عيوش، أما والدته فهي فرنسية يهودية من أصل تونسي، ونشأ في ضواحي باريس، وقضى طفولته في منطقة سارسيل، وبدأ رحلته الفنية بدراسة الفن المسرحي، ثم عمل في مجال الإعلانات بوكالة “هافاس العالمية”، حيث اشتغل ككاتب سيناريو ومساعد مخرج، وأخرج مجموعة من الإعلانات والأفلام القصيرة التي نالت جوائز.
وانطلقت مسيرته الإخراجية بفيلم طويل حمل عنوان “مكتوب”، الذي نال استحسانا كبيرا وتوج بجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي، قبل أن يحقق فيلمه “علي زاوا” نجاحا عالميا بحصده أكثر من أربعين جائزة في عدة مهرجانات دولية.
في بداياته أخرج أفلاماً قصيرة مثل “بائع الصمت” و”اتصالات أثيرية”، إلى جانب فيلم “حجارة الصحراء الزرقاء” الذي اشتغل عليه مع الكوميدي جمال دبوز، أما أول أفلامه الطويلة فكان “أطلال”، الذي تلاه “مكتوب”، الذي مثل المغرب في جوائز الأوسكار.
وأسس نبيل عيوش لاحقاً الائتلاف المغربي للتنوع الثقافي بدعم من الاتحاد الأوروبي كما أنشأ شركة للإنتاج السينمائي سعى من خلالها إلى إنتاج ثلاثين فيلما روائيا، وأطلق مشروع “صور للجميع”، الذي يعبر عن اهتمامه الكبير بتوسيع نطاق التعبير الفني ونشر الثقافة السينمائية، بينما حاز عيوش على جوائز مرموقة، منها جائزة لوميير لأفضل فيلم فرنكفوني، وجائزة أفضل مخرج لفيلم روائي عربي في مهرجان الدوحة السينمائي، والجائزة الكبرى في أسبوع السينما الدولي ببلد الوليد، وجائزة الإبداع الفني في مهرجان الإسكندرية، إضافة إلى جائزة “فرنسوا-شاليه”.
وعرفت أعماله جرأة في تناول مواضيع اجتماعية حساسة مثل الجنس والدين والطبقية، ما أثار جدلاً واسعاً حول بعض أفلامه، ومن أبرز هذه الأعمال فيلم “الزين اللي فيك”، الذي ناقش موضوع الدعارة في المغرب، وأثار ضجة كبيرة وصلت إلى حد منعه من العرض من طرف وزارة الاتصال المغربية، وتشمل قائمة أعماله:
“أطلال”، “مكتوب”، “علي زاوا”، “لحظة ظلام”، “كل ما تريده لولا”، “الكراب”، “هي”، “ياك حنا جيران”، “السراب”، “ديما جيران”، “كلنا جيران”، “يا خيل الله”، “أرضي” (وثائقي)، “هم الكلاب”، “آية والبحر”، “الزين اللي فيك”، “غزية”، “آدم”، “علي صوتك”، “القفطان الأزرق”، “في حب تودا”.