نبيل شحادة يستحضر الفردوس المفقود برؤى تجريدية

يُخيل إلى البعض أن رؤية الأعمال الفنية التجريدية أقل تكلفة على مستوى الشعور بالألم. فهناك تبدو الأشكال صافية من غير أن يعكرها صراخ الحياة اليومية ولا تشق هدوءها ضربات غير متوقعة.
تلك فكرة تذكرنا بـ"بيت موندريان" الهولندي الذي ابتكر التجريد الهندسي والذي صار مصممو الأزياء يستفيدون من أشكاله ليضيفوا نوعا من الهدوء على أزيائهم.
ولكن التجريد ليس كذلك دائما. الفلسطيني نبيل شحادة من الفنانين الذين يفرغون شحنة الألم في أعمالهم. لن يكون أمام متلقي رسومه سوى أن يشاركه ذلك الألم. فهو ألم يخترق بصيحته هدوء التأمل، بالرغم من أنه يدفع إلى كثير من التأمل.
ذلك لأنه يأتي محملا بالأسئلة. أسئلة الفلسطيني المقاوم في شتاته من أجل الحفاظ على ذاكرته وهي عنصر هويته التي يأبى سوى أن يمنع عمليات محوها. هناك تكمن إنسانيته.
الفلسطيني ببعده الإنساني
شحادة رسام فلسطيني مختلف عن سواه من الفنانين الفلسطينيين الذين اعتبروا الرموز والإشارات الثقافية والاجتماعية والبيئية الجزء الأساس في تلك الهوية. من المؤكد أن المشهد الفلسطيني كان حاضرا في أعمال شحادة غير أنه ذلك المشهد الذي حافظ على بعده الإنساني من غير أن يضيع في تفاصيله المرئية. ما لا يُرى من عذابات الفلسطيني ألهمه الكثير من التفاصيل الروحية. وهي محاولة لتخطي عتبة المرئيات إلى الداخل.
◙ المشهد الفلسطيني كان حاضرا في أعمال شحادة غير أنه ذلك المشهد الذي حافظ على بعده الإنساني من غير أن يضيع في تفاصيله المرئية
من أعماله يتسرب حزن لين وشفاف ليذهب مباشرة إلى الروح من غير أن يسلي العين بتفاصيل لم يشعر الرسام بالحاجة إلى أن يستعيدها.
ذلك الحزن السائل، غير الثقيل سيكون مصدر أشكال لن يحتاج الفنان إلى أن يقنع المتلقي بأنه رآها سابقا. فهي أشكال لا تعذب ولكنها تذكر بالعذاب إذ لا تُخفيه من غير أن تصنع منه قضية بديلة. ذلك فن يقول أكثر مما نتوقعه على مستوى الكشف عن الطابع الإنساني للسؤال الفلسطيني الذي يبقى من غير إجابة. فهو سؤال وجود لا نهائي لا يرتبط بمرحلة بعينها.
لا يرسم شحادة قبابا ولا بيوتا ولا مفاتيح ولا مخيمات ولا بشرا مشردين وضائغين ولا فدائيين ولا حقول زيتون وبرتقال ولا بانوراما لمشهد المدينة الفلسطينية كما تظهر في الأحلام. إنه يرسم كل ذلك، لكن من خلال الأثر الذي يتركه الغياب. أثر الفقدان. فقدان الروائح والأصوات والمذاقات لا أثر المرئيات وحدها. أثر الصيحة والغصة والشهقة بكل ما تنطوي عليه من ألم.
"هل رأيت كل ذلك؟" سؤال لن يجيب عليه الرسام. يحتاج المرء إلى حياة من نوع خاص لكي يتحمل كل ذلك الغياب. ذلك ما يميز الفلسطيني عن سواه من البشر. إنه ابن التجربة التي تحولت إلى حياة كاملة.
لن يسأل أحد الفنان عن موقع فلسطين في لوحاته لكي يقول له “كل هذا فلسطين” فمَن عاش تلك التجربة لا بد أنه سيرى بعينين مغمضتين ما توصل إليه الرسام من مواقع الألم.
تجريد على حافة الهاوية
شحادة رسام تجريدي، غير أنه التجريد الذي يقف على حافة الهاوية.
ولد في القدس عام 1949 لعائلة من الخليل. في سبعينات القرن الماضي غادر إلى لندن ودرس الفن في مدرسة جون كاس للفنون وكلية همر سمث وكلية شلسي للفنون وفي عام 1982 درس فن الجداريات في لندن أيضا. واختار الإقامة في سويسرا بعد ذلك.
منذ عام 1972 وهو يُقيم معارضه في بريطانيا والأردن وسويسرا وإيطاليا وكندا والولايات المتحدة.
تأثر شحادة في بداياته بمختلف التيارات الفنية التي سادت في ستينات القرن الماضي ومنها فن البوب غير أنه كان أكثر قربا من الأسلوب التقليلي وإن كان قد وجد نفسه يبتعد عنه قليلا مفضلا أن يتبع انفعاله الذي يدفع به إلى مناطق يكون فيها استعمال الكثير من الأصباغ ضروريا.
◙ شحادة من الفنانين الذين يفرغون شحنة الألم في أعمالهم. ولن يكون أمام متلقي رسومه سوى أن يشاركه ذلك الألم
وكأي فلسطيني مقتلع من وطنه شغل المكان حيزا كبيرا من عالمه. احتل المكان المفقود بكل ما انطوى عليه من حكايات وأساطير حيزا كبيرا من تجربته في الرسم فكان يرسم انطلاقا من فكرة العودة إلى ذلك المكان أو على الأقل استعادته باعتباره نوعا من الفردوس.
لذلك كان يرسم ذلك المكان كما لو أنه كان حديقة بستحضرها في أحلامه. كانت رسومه عبارة عن نزهات يومية بين أفياء تلك الحديقة التي لا تخفي آثار الحرائق التي تقع تحت قشرتها الشفافة.
كان الرسم بالنسبة إليه بمثابة أسلوب حياة يمتزج فيها الفكر بالخيال. فرسومه لا تُرى إلا من أجل أن تطلق العنان لسيل من الأفكار التي تمزج الوطن الغائب بالحضور الإنساني. من خلال ذلك المزيج كان المكان يتخذ هيئة الفردوس المستعاد.
البيت هو خلاصة تلك العلاقة بين فلسطين والفلسطيني. من خلال تلك الخلاصة يجد شحادة أنه يخلص أكثر لقضيته كلما استغرق أكثر في أحلامه الشخصية التي صار يستحضرها عن طريق اختراق القشرة التي تفصله عن الحياة الحقيقية التي تقع في مكان خفي من العالم الذي تتكون عليه أشكاله التي تتميز بحيويتها بحيث لا تُرى إلا وهي تفارق حدودها.
صور الحلم المتلاحقة
يبني شحادة لوحته في البدء على أشكال محددة غالبا ما تكون هندسية غير أنه يتخلى في ما بعد عن تلك الهندسة ليستجيب لانفعال يده التي تنساق وراء ضربات، تُذكر بتقنيات الفرنسي سولاج والألماني هارتونك. ضربات تكون بمثابة أثر لزلزال تتحطم بسببه الأشكال وتتلبس أشكاله بعدها حيوية أخاذة تنتج عنها أشكال جديدة تتمتع بانسيابية مدهشة.
يترك آثار ضربات الفرشاة العريضة واضحة من غير أن يسعى لإخفاء حدودها. كما لو أن اللوحة لم تكتمل لا يوحي عالمه بأي نوع من الاكتمال. وهنا تكمن إشارة واضحة إلى أن الطريق هو ذلك العالم الذي يصوره الرسام وما من شيء يمكن رؤيته بيسر ووضوح. كل هذا الغموض من أجل يتسع الحلم للمزيد من التجليات. كل صورة تلحق بأختها وتسعى لالتقاط ما فاتها.
◙ شحادة يتحاشى الوصف ويذهب إلى عمق الصورة ليرينا الفكرة وقد تجلت كما لو أنها لم تتجل من قبل
سيكون علينا أن نرى الأمكنة التي يرسمها شحادة كما لو أننا لم نرها من قبل. كما لو أنه يستعيد فلسطينه هو لا فلسطين الآخرين.
أليس هذا ما ينبغي للرسام أن يفعله؟ إنه يقنعنا بأنه يرسم شيئا غير ذلك الشيء الذي رأيناه. تتحول على يديه الأشياء العادية إلى أشياء خارقة. وهل فلسطين إلا نوع الفردوس الذي يعجز المرء عن تخيله ولو بطريقة تقريبية؟
ولأنه يتحاشى الوصف فإن شحادة يذهب إلى عمق الصورة ليرينا الفكرة وقد تجلت كما لو أنها لم تتجل من قبل. وهو هنا إنما يعلي من شأن حريته. حريته رساما ومواطنا على قيد الانتظار.
يرسم شحادة بحرية ليدعو متلقي أعماله إلى تأملها والتفكير من خلالها بحرية.