ناصية القراءة

تشبع الفضاء الاجتماعي طوال السنوات الباقية من القرن التاسع عشر بالقراءة، ولم يكن ذلك إلا لإحباط محاولات المستعمر الإنكليزي صنع أنموذج البريطاني الأفضل، على النقيض من الأيرلندي الوطني، الذي يعمل على إحراز حريته وخلع المستعمر!
الأحد 2018/09/23
من يمتلك المعرفة بالماضي يتحكم في المستقبل

يُفتتن القادم إلى أيرلندا، بطبيعة هذا البلد وإنسانه المهذب وثقافته، ويندفع تلقائيا ليتحرى أسباب سعادته الراهنة، ووقائع آلامه قبلها!

كان الاستعماريون الإنكليز، قد أودعوا وعي الأيرلنديين الباطني، نوعا من الذكرى البغيضة، التي يحرصون على تجاوزها بتفشي السكينة والإقلال حتى الندرة، من ظهور شرطي أو جندي في ريفها الهانئ الذي شهد أكثر المواجهات مرارة في تاريخ البلاد.

فقد غزا هنري الثاني بلادهم، في العام 1167 وعاث فيها جنوده البروتستانت فسادا ضد المواطنين الكاثوليك وقساوستهم. ثم دفعهم السلوك الاستعماري الفظ، إلى التمرد وطرد الإنكليز، للحظات قصيرة، بعد نحو أربعة قرون إلا ربع القرن.

 لكن هنري الثامن قاد حملة غزو فورية وفرض على الأيرلنديين معركة غير متكافئة، ليرزحوا لنحو أربعة قرون أخرى تحت نير المستعمر. فعل الإنكليز بالأيرلنديين كل الأفاعيل، عبر 745 سنة من الاحتلال، حتى تصدت له في العام 1912 حركة تحرر وطني، لم تنطل عليها خديعة المستعمر ووعوده بمنح الحكم الذاتي والاستقلال، أثناء الحرب العالمية الأولى. وكانت تلك خديعة شبيهة بالخديعة البريطانية لعرب المشرق. فالأيرلنديون، بعد أكثر من سبعة قرون، كانوا بالطبع أعلم من العرب بالحيل البريطانية، في العقد الثاني من القرن العشرين!

كيف استجمع الأيرلنديون شبابهم وإرادتهم وهويتهم، التي كادت أن تمحوها سبعة قرون من الاحتلال الذي يقتل ويصادر الأراضي، ويصر على محو الهوية وتضليل الأجيال، ويقتحم الثقافة ويخنق الكنيسة الكاثوليكية، فيضطر رعاياها إلى بناء كنائسهم وسط المروج وبين الجبال، ويلعب لعبته المفضلة “فَرَّق تَسُد”!

كان الأخذ بناصية القراءة، وسيلة الاستحواذ على إحساس عميق بالذات وبالهوية المميزة، لدى الشباب، في عملية تراكمية بدأت قبل نحو نصف القرن، من لحظة إطلاق دانييل أوكونيل حركة “أيرلندا الفتية” التي أصدرت صحيفتها ذا نيشن.

التقط أوكونيل من كتابات الأديب والصحافي الإنكليزي اليساري جورج أورويل عبارة تقول “من يمتلك المعرفة بالماضي، يتحكم في المستقبل”، وبدأت تلك الحركة في دفع الشباب إلى قراءة مآثر الوطنيين الأيرلنديين الراحلين، واستدعاء الماضي كمصدر للإلهام، وتعميق الوعي بالذات والشغف بالوطن.

أصبحت استعادة الشباب بدل تضييعهم، هي طريق الوصول إلى الحرية. كان لا بد من أن تستعيد الذاكرة الجماعية، قصص الأبطال الذين قضوا في مواجهة القوة الغاشمة. وتشبع الفضاء الاجتماعي طوال السنوات الباقية من القرن التاسع عشر بالقراءة، ولم يكن ذلك إلا لإحباط محاولات المستعمر الإنكليزي صنع أنموذج البريطاني الأفضل، على النقيض من الأيرلندي الوطني، الذي يعمل على إحراز حريته وخلع المستعمر!

24