نابليون بونابرت في كرمة ابن هانئ

هناك الكثير من الشخصيات الإشكالية في التاريخ قديمه وحديثه وحتى المعاصر منه، شخصيات تحظى بقبول البعض والتمجيد والثناء بينما يسخط عليها آخرون ويكيلون لها الكراهية والعداء حتى بعد مماتها. من هذه الشخصيات شخصية القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت، الذي قاد حملة عسكرية مؤثرة على الشرق، ما جعله بطلا عند بعض الشعراء مثل أحمد شوقي، ولكن لماذا افتتن شوقي بشخصية غاز وهو الذي عرف بميوله القومية؟
يحيرني موقف أمير الشعراء أحمد شوقي من نابليون بونابرت، فأثناء زيارتي، مؤخرا، لبيته أو متحفه “كرمة ابن هانئ” بالجيزة، شاهدت صورة زيتية كبيرة لنابليون ببزته العسكرية، معلقة على جدار إحدى صالات الطابق الثاني من الكرمة، جالسا وناظرا للرائي، ما يعني أن شوقي كان يعتز به ويعتبره بطلا من أبطال الثورة الفرنسية، رغم حملته على الشرق خلال السنوات 1798-1801.
وفي كتابه “العودة إلى شوقي”، يوضح الباحث عرفان شهيد أن شوقي وقف على قبر نابليون بباريس، وذكر أمجاده العسكرية والحضارية، وكان هذا متوقعا من شاعر مصر التي أيقظها نابليون غير عامد، وأيقظها عامدا محمد علي، بل إن محمد علي نفسه كان من المعجبين بنابليون، إلى جانب الإسكندر الأكبر وبطرس الأكبر.
قصائد في نابليون
نحن نعرف أن شوقي تربى في قصور الأسرة العلوية التي أسسها محمد علي، ومن ثم فإن من يعجب تلك الأسرة يعجب شاعرها، ومستشارها السياسي. وقد كتب شوقي أكثر من قصيدة عن نابليون ومنها قصيدته "على قبر نابليون" التي يقول في مطلعها:
"قِف عَلى كِنزٍ بِباريسَ دَفين/ مِن فَريدٍ في المَعاني وَثَمين/ وَاِفتَقِد جَوهَرَةً مِن شَرَفٍ/ صَدَفُ الدَهرِ بِتُربَتِها ضَنين/ قَد تَوارَت في الثَرى حَتى إِذا/ قَدُمَ العَهدُ تَوارَت في السِنين/ غَربَت حَتى إِذا ما اِستَيأَسَت/ دَنَتِ الدارُ وَلَكِن لاتَ حين/ لَم تُذِب نارُ الوَغى ياقوتَها/ وَأَذابَتهُ تَباريحُ الحَنين/ غَيبَتْ باريسُ ذُخراً وَمَضى/ تُربُها القَيمُ بِالحِرزِ الحَصين/ نَزَلَ الأَرضَ وَلَكِن بَعدَ ما/ نَزَلَ التاريخَ قَبرَ النابِغين/ أَعظُمُ اللَيثِ تَلقاها الشَرى/ وَرُفاتُ النَسرِ حازَتهُ الوُكون/ وَحَوى الغِمدُ بَقايا صارِمٍ/ لَم تُقَلب مِثلَهُ أَيدي القُيون/ شَيدَ الناسُ عَلَيهِ وَبَنوا/ حائِطَ الشَك عَلى أُس اليَقين".
ويخاطبه قائلا:
"يا عِصامِياً حَوى المَجدَ سِوى / فَضلَةٍ قَد قُسمَت في المُعرِقين/ يا مُلَقى النَصرِ في أَحلامِهِ / أَينَ مِن وادي الكَرى سَنتِ هِلين/ يا مُنيلَ التاجِ في المَهدِ اِبنُه / ما الذي غَركَ بِالغَيبِ الجَنين".
وفي الوقت نفسه يهاجمه شوقي في رائعته الشعرية التي كتبها للمشاركة في المؤتمر الشرقي الدولي المنعقد بمدينة جنيف عام 1894 (وعمره 26 عاما) ومطلعها:
هَمتِ الفُلكُ وَاِحتَواها الماءُ / وَحَداها بِمَن تُقِل الرَجاءُ
وفيها يتحدث عن كبار الحوادث في وادي النيل. وعند ذكر نابليون في هذه القصيدة قال:
"وَأَتى النَسرُ يَنهَبُ الأَرضَ نَهباً / حَولَهُ قَومُهُ النُسورُ ظِماءُ/ يَشتَهي النيلَ أَن يُشيدَ عَلَيهِ / دَولَةً عَرضُها الثَرى وَالسَماءُ/
قاهِرُ العَصرِ وَالمَمالِكِ نابِل / يونُ وَلت قُوادُهُ الكُبَراءُ/ جاءَ طَيشاً وَراحَ طَيشاً وَمِن قَبلُ / أَطاشَت أُناسَها العَلياءُ/
سَكَتَت عَنهُ يَومَ عَيرَها الأَهرامُ / لَكِن سُكوتُها اِستِهزاءُ/ فَهيَ توحي إِلَيهِ أَن تِلكَ واتِرلو / فَأَينَ الجُيوشُ أَينَ اللِواءُ؟”.
ويصف المؤرخ عبدالرحمن الرافعي أن سكوت الأهرام، وهي تواجه نابليون، بأنه سكوت السخرية والاستهزاء، وكأنها تتنبأ له بالهزيمة في ختام معاركه.
وفي قصيدته "على قبر نابليون" قال شوقي:
◙ شوقي كان يعتز ببونابرت ويعتبره بطلا من أبطال الثورة الفرنسية، رغم حملته على الشرق خلال السنوات 1798-1801
"قم إلى الأهرام واخشع واطرحْ / خِيلة الصيد وزهو الفاتحين/ وتمهل إنما تمشى على / حَرَم الدهر ومحراب القرون/ هو كالصخرة عند القبط أو / كالحطيم الطهر عند المسلمين/ وارتق الأحجار واصعد منبرا / لم يُسَخر لأمير المؤمنين/ وتسنمْ منبرًا من حجر/ لم يكن قبلك حظ الخاطبين/ وادع أجيالا تولت يسمعوا/ لك وابعث في الأوالي الحاشرين/ وأعدها كلماتٍ أربعًا / قد أحاطت بالقرون الأربعين/ وادعُ قومي من ذرى أعواده / لخلالٍ كالصباح المستبين/ قد عرضت الجيش والدهر معًا / غاية قصر عنها الفاتحون/ عظةٌ قومي بها أولى وإن / بعُد العهد فهل يعتبرون/ قل لهم عهدىَ فيكم أمةً / عرفوا الحق وقوما صابرين/ عطف الدهر على ثورتكم / ولوى الناسَ عليها معجبين/ هزت الليث ولما يَصح من / دم غليومَ وصيدٍ آخرين/ فرأى ما لم يقع في وهمه / مصر تستكبر والألمان دِين/ ثورة أقبلت السلمُ بها / عجبُ الرائين سحرُ السامعين/ قام رهط منكم فاقتحموا / كبرياء الفاتحين الظافرين/ جحدوا السيف وردوا حكمه / عُزلا إلا من الحق المبين/ همة تكتبها مصر لهم / إن أبيتم أن تكونوا الكاتبين/ استخف الليثُ إجماعكم / وهو نابُ العَجَم الداهي الرزين/ فزأرتم زأرة أقعى لها / وأجال اللحظ فيهم يستبين/ مستعيذا منكُم بالله أن / تُصبحوا الهند وتمسوا الصِين فِين".
وشوقي يعتبر أن نابليون أهم أو أفضل من الإسكندر وذلك في إحدى مقالاته سنة 1899 حيث أقام موازنة بين القدماء والمحدثين، رأى فيها أن فيكتور هوغو أعلى من هومير (هوميروس)، وبستور يفضل أبقراط، وسارة برنار تفضل ممثلي أثينا القديمة، ونابليون أفضل من الإسكندر.
الافتتان بالقائد
ويرى عرفان شهيد أن اهتمام شوقي بتاريخ مصر في العصر الحديث موصول باهتمامه بالتاريخ الفرنسي والحضارة الفرنسية لاسيما نابليون بونابرت. وهو يعرف أن نابليون كان من صناع تاريخ مصر الحديث عندما افتتحه بتاريخ الأهرام، وأن محمد علي ظهر في أعقاب الحملة الفرنسية (1798 – 1801).
وقد زاد شوقي وعيا بالتاريخ والحضارة الفرنسيتين معرفته باللغة الفرنسية وقضاؤه سنوات دراسية في فرنسا. وبهرته الحضارة الفرنسية وهو طالب في باريس. لكنه تنكر لفرنسا في العشرينات من القرن العشرين عندما اصطدمت القومية العربية في بلاد الشام بالإمبريالية الفرنسية، فكانت "الشوقيات" التي نعى فيها الشاعر على فرنسا ضربها دمشق بالمدافع وما فعلت في “ميسلون".
لكن شخصية نابليون ملأت وعيه، وكان به مفتونا.
ويرجع عرفان شهيد افتتان شوقي بنابليون إلى العوامل التالية: فهم شوقي إسهام نابليون في إيقاظ مصر (ولو أن نابليون لم يفعل ذلك عامدا) وتهيئة المسرح الذي لعب عليه محمد علي دوره الكبير بعد ذلك. وأن إقامة شوقي في باريس أحكمت أثر صورة نابليون في وعيه، فآثاره الحربية والسلمية بادية للعيان هناك، وبها قبة الأنفاليد حيث وقف الشاعر على ضريح الجندي المجهول الكبير فألهمه قصيدته النونية في نابليون.
لقد انعكس هذا الإعجاب بنابليون في الكثير من قصائد شوقي، وكان يعود إليه في فترات مختلفة من حياته، الأمر الذي يوحي بأن نابليون كان له نداء واسع ومتواصل في وعي شوقي. فكانت مرثاته النونية أوسع لوحة شعرية صنعها شوقي لنابليون.
ويستثمر شوقي خطبة نابليون في جنوده بقوله “أيها الجنود البواسل إن أربعين قرنا من الزمان في تنظر إليكم”، فيقول:
"وَأَعِدها كَلِماتٍ أَربَعاً / قَد أَحاطَت بِالقُرونِ الأَربَعين/ أَلهَبَت خَيلاً وَحَضت فَيلَقاً / وَأَحالَت عَسَلاً صابَ المَنون".
ويمضي شهيد فيقول: عندما نظم شوقي رائعته في نابليون شب عن الطوق العربي في ذكره قائدًا لم يكن عربيا ولا مسلمًا، ووطئ الصعيد الشعري العالمي، وأصبح واحدًا من تلك الزمرة من الشعراء والكتاب والفنانين الذين عاصر الكثير منهم “العبقري الفرنسي” وفُتنوا بنبوغه وإنجازاته، ومنهم اللورد بيرون، ووردزورث، وغوته، وهوغو، ومنزوني، وليست رائعة شوقي في نابليون بأقل مما نظمه هؤلاء.
وفي قصيدته الكافية الموسومة “تكليل أنقرة وعزل الآستانة” والتي يقول في مطلعها:
"قُم نادِ أَنقَرَةً وَقُل يَهنيكِ / مُلكٌ بَنَيتِ عَلى سُيوفِ بَنيكِ".
◙ اهتمام شوقي بتاريخ مصر في العصر الحديث موصول باهتمامه بالتاريخ الفرنسي والحضارة الفرنسية لاسيما نابليون بونابرت
ذكر الفرنسي في هذه القصيدة، ولم أدر هل هو يقصد نابليون، أم غيره، ولكنه يذكر النسر وهو اللقب الذي خلعه شوقي من قبل على نابليون. يقول في الكافية:
"زَعَموا الفَرَنسِي المُحَجلَ صورَةً / في حَلبَةِ الفُرسانِ مِن حاميكِ/ النَسرُ سَل السَيفَ يَبني نَفسَهُ / وَفَتاكِ سَل حُسامَهُ يَبنيكِ/ وَالنَسرُ مَملوكٌ لِسُلطانِ الهَوى / وَوَجَدتُ نَسرَكِ لَيسَ بِالمَملوكِ".
وإذا كان هذا صحيحا، فإنه يضع مصطفى كمال أتاتورك (وفتاك) في مواجهة نابليون (النسر) وينتصر شوقي – باعتباره مسلمًا ومن ذوي أصول تركية - لأتاتورك في هذه القصيدة، إذ كان يظنه يعمل لصالح الخلافة الإسلامية التي استمرت ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، ولم يكن يتوقع أنه سيقوم بإلغاء الخلافة والسلطنة، بنقله العاصمة من الآستانة إلى أنقرة، وإعلان تركيا دولة علمانية. فيصفه بأنه جندي جاهل ومغرور، بعد أن كان معجبًا بعبقريته الحربية.
وبعض شعراء الإنجليز الرومانسيين من أمثال: بيرون ووردزورث، كانوا معجبين ببطولة نابليون وعبقريته، وكذلك شوقي الذي نظم فيه قصيدته النونية المشهورة.