مُقاطعة روسيا ليست بتلك البساطة.. اسألوا العاملين في القطاع السينمائي

غزو أوكرانيا يسفر عن نشوب حرب ليس فقط في ساحة المعركة وإنما أيضا في مجاليْ التجارة والثقافة.
الثلاثاء 2022/03/29
السينما مرآة للأنظمة الديكتاتورية أيضا

أسفر غزو أوكرانيا عن نشوب حرب ليس فقط في ساحة المعركة وإنما أيضا في مجاليْ التجارة والثقافة، فبالتزامن مع توغل القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية توقفت الشركات العالمية عن ممارسة الأعمال التجارية في روسيا، وفي الوقت نفسه دعت هيئات ثقافية مثل أكاديمية السينما الأوكرانية المجتمع السينمائي الدولي إلى مقاطعة الأفلام الروسية.

وبعد أيام قليلة من اجتياح دبابات فلاديمير بوتين للحدود الأوكرانية تلقيت طلبًا للتوقيع على عريضة تدعو مهرجانات الأفلام إلى حظر الأفلام التي تنتجها روسيا، وطلبت هذه العريضة من الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام إقالة “موسكو إنترناشونال فيلم” وحضت على أن يتوقف المنتجون والموزّعون عن العمل مع روسيا أو داخلها.

ولم يسعني بعد قراءة تلك العريضة إلا العودة بذهني إلى الفيلم القصير للمخرج الدنماركي – الفلسطيني مهدي فليفل، “لقد وقعت على العريضة”.

وفي ذلك الفيلم يفكر فليفل في قرار التوقيع على عريضة تطالب مجموعة موسيقى الروك البريطانية العملاقة راديوهيد بإلغاء حفلتها خلال يوليو 2017 في إسرائيل، ووقعت أيضًا شخصيات بارزة مثل الفائز مرتين بالسعفة الذهبية كين لوتش.

واحتار فليفل في أمره بعد بضعة أيام؛ حيث بدأ يتساءل عما إذا كان قد فعل الشيء الصحيح بالتوقيع على تلك العريضة؟ وهل فعل الصواب من خلال الإعلان عن دعمه لتلك المبادرة؟ وهل يريد الخوض في الحديث عن السياسة؟ وهل سيحدث توقيعه فرقا؟

إذا تم استبعاد الجميع فسيتم تكميم أفواه البعض ممّن نريد دعمهم، وليس من السهل دائمًا التمييز بين المحق والمخطئ، فهناك دائمًا استثناءات تعارض أي قاعدة عامة يتم وضعها

وقد حظي الالتماس الأوكراني بردود فعل مثيرة للاهتمام من قطاع إنتاج الأفلام؛ إذ أعلن مهرجان ستوكهولم السينمائي أنه لن يختار الأفلام الروسية، وقدمت مهرجانات أخرى عروضا خاصة للأفلام الأوكرانية تضامناً معها، وسحب مهرجان غلاسكو السينمائي فيلمين روسيين هما “لا للنظر إلى الوراء” (فيلم كوميدي سوداوي عن الجريمة من إخراج كيريل سوكولوف) وفيلم الإثارة “الإعدام” (من إخراج لادو كفاتانيا).

وكانت هناك ردود فعل معارضة في وسائل التواصل الاجتماعي ضد قرار غلاسكو، حيث حاج البعض بأن سحب الأفلام يشير إلى أن المهرجان اعتبر هؤلاء المخرجين الروس عملاء لبوتين، يروجون للدعاية الروسية.

وقد شعر فريق مهرجان غلاسكو السينمائي بالحاجة إلى توضيح أسباب سحب تلك الأفلام الروسية؛ إذ لم يكن ذلك بسبب جنسية المخرجين وإنما لأن “كلا الفيلمين تلقيا تمويلًا حكوميًا عبر صندوق السينما ‘سي أف’ الذي يضم مجلس أمنائه الوزراء الحاليين للحكومة الروسية ووزارة الثقافة الروسية”.

وصرح مهرجان كان السينمائي بأن الأفلام الروسية المقدمة إلى المهرجان سيتم الحكم عليها كل حالة على حدة، فلن تتم دعوة الوفود الرسمية الروسية للحضور ولا أي شخص مرتبط بالحكومة الروسية، وفي الجانب الآخر أشاد المهرجان بشجاعة “الفنانين والسينمائيين الروس الذين لم يتوقفوا أبدًا عن النضال ضد النظام الحالي، وعليه لا يمكن ربطهم بتلك الأعمال العدائية والوحشية”.

كما اتخذت المهرجانات الأخرى -مثل مهرجان البندقية ومهرجان سان سيباستيان- مسلكا مشابهًا لمهرجان كان، سلط الضوء على مشكلة الحظر الشامل؛ فإذا تم استبعاد الجميع فسيتم تكميم أفواه البعض ممّن نريد دعمهم، وليس من السهل دائمًا التمييز بين المحق والمخطئ، فهناك دائمًا استثناءات تعارض أي قاعدة عامة يتم وضعها.

ويمكن أن تكون لتلك الدعوات الخاصة باتخاذ خطوات عملية عواقب وخيمة لم تكن في الحسبان، فقد استقال سيرجي لوزنيتسا -وهو مخرج الأفلام الأوكراني الحائز على جائزة “دونباس”- من عضويته في أكاديمية السينما الأوروبية لأنه شعر بأن بيان الاتحاد الأوروبي للسينما الذي أدان روسيا لم يكن شديد اللهجة بما فيه الكفاية، ورد الاتحاد الأوروبي للسينما بمنع الأفلام الروسية من المنافسة في جوائز هذا العام.

اتخاذ إجراء ضد الأفلام التي تعكس دعاية النظام أمر واجب، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب المخرجين الذين ينتقدون أنظمتهم

ثم حاجج المخرج لوزنيتسا ضد الحظر التام للفنانين الروس، حيث قال “يجب ألا نحكم على الأشخاص بناءً على جوازات سفرهم، بل على أفعالهم”. وبناء على ذلك الموقف تم طرد المخرج من أكاديمية السينما الأوكرانية.

وقد أتفق مع تصريح المخرج لوزنيتسا بشأن جوازات السفر، ولكن بعد ذلك أسمع أيضًا نداءات الآخرين في قطاع السينما الذين تتعرض منازلهم للتهديد، فقد قال أندريه خالباخشي -وهو مدير مهرجان مولوديست السينمائي الدولي ومقره كييف- “إن الطريقة الوحيدة لتغيير النظام الفاشي الروسي بقيادة بوتين هي العزلة الكاملة للمجتمع الروسي وعزل الثقافة والرياضة الروسيتيْن”.

أضف إلى ذلك رسائل من الأشخاص في قطاع السينما الذين أعرف أن أسرهم تتعرض لخطر أو لملامح الألم المرسوم على وجه عامل النظافة الذي قرر شقيقه الانضمام إلى الجيش الأوكراني، وكل ذلك يجعلني أتساءل عما إذا كان يجب عليّ التوقيع على العريضة وأحسم أمري؟ لكن هل سأشعر بعد ذلك بالندم، كما شعر بطل الفيلم فليفل؟

وبصورة عامة تسلط العريضة الضوء على مدى تأثير الفن في خلق التغيير، وتدعو إلى التشكيك في سلوكنا وأفعالنا الفردية التي يمكن أن تمارس الضغط، حتى على واحدة من أقوى الحكومات في العالم. لذلك أنا سعيد بوجود تلك العريضة، حتى لو كانت لدي شكوك حول قضية الحظر الشامل، فالأصوات الفردية المعارضة مهمة أيضًا وغالبًا ما يجد منتجو الأفلام طرقًا لرواية قصصهم في أصعب الظروف.

وما على المرء إلا النظر إلى العدد الكبير من منتجي الأفلام الإيرانيين الذين تمكنوا من التعبير عن معارضتهم من خلال أفلامهم؛ فالبعض -مثل جعفر بناهي- استمر في مشواره الفني حتى بعد اعتقاله أو منعه من إخراج الأفلام، وتوفر أفلام عباس كياروستمي ومؤخراً أفلام أصغر فرهادي نافذة على إيران وبعض أشكال المعارضة والاضطرابات هناك، وتلك الأعمال لا تقدر بثمن لأنها تحسّن فهمنا للمشهد الداخلي في البلد، لاسيما أنها أصوات من الداخل.

وبالطبع يجب أن يتم اتخاذ إجراء ضد الأفلام التي تعكس دعاية النظام، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك الإجراء على حساب المخرجين الذين ينتقدون أنظمتهم، ولست متأكدًا من أن العريضة التي طُلب مني التوقيع عليها تميز بين كلا الجانبين بدرجة كافية. ولكن كل صباح عندما أشاهد الأخبار وأرى الحرب مستمرة، أجد نفسي مضطرًا إلى التساؤل: هل اليوم هو اليوم الذي أوقع فيه على تلك العريضة؟

٭ سنديكيشن بيورو

7