مُذلون مُهانون في الليلة الليلاء بعد الألف

الجمعة 2014/12/19

علاقة جيلنا بالأفكار في هذا الزمن الذي انعدمت فيه الخيارات وكفت الأفكار عن التأثير على الأحداث، يذكرني بما سمي بـ”دليل الحمار” الذي تحدّث عنه جان بوريدان الباحث في المنطق والفيلسوف الذي عاش في القرن الرابع عشر.

كان بوريدان يكرر على أسماع تلامذته بجامعة باريس أنه لو وضعنا حمارا على مسافة واحدة من الماء والعلف، وكان عطشه مساويا لجوعه لما استطاع أن يرجح جانبا على الآخر. وكان يعني بذلك أن إحساسي العطش والجوع متساويين لدى حماره بحيث أنه يظل حائرا أين يتجه. وهكذا تُشَلُّ قدرته على الاختيار.وبهذا المعنى فإنه ليس من التعسف القول إن علاقة بعض المثقفين العرب، بهذا التيار الفكري أو ذاك، لا تخرج في نتائجها عن الاستسلام لما أسماه بوريدان بـ”دليل الحمار”.

فهم يتحرّكون على الصعيد العملي، بتأثير المنفعة المباشرة وليس بمدى ما تنطوي عليه الفكرة من خطإ أو صواب. وبعبارة أخرى فإن نتيجة انعدام الخيارات سرعان ما تؤدّي إلى عملية ارتداد مشينة إلى قوقعة أصولية طائفية أو أصولية جهوية، عملية لاهوتية تنتصر فيها الإرادة العمياء على العقل المتفتح. وهذا شبيه على حدّ تعبير أستاذنا الراحل جميل صليبا، باعتراض بعض الفلاسفة العرب على القول بحدوث العالم. فهم يقولون إن حدوث العالم يقتضي حدوث حادث يرجح كفة احتمال من احتمالين. ذلك لأنه لو كان لدى المرء ثمرتا تمر متساويتان بين يدي المتشوق إليهما، والعاجز عن تناولهما جميعا، فإنه يأخذ إحداهما لا محالة، بفعل الإرادة العمياء لا بتأثير العقل المستنير.

ولكن لماذا الحديث عن حمار بوريدان ودليله، إذا كان لدينا حمارنا المحلي الذي تروي قصته إحدى حكايات التراث الشعبي؟

دليل الحمار برواية التراث الشعبي متضمن في قصة مفادها أن أحد المتعلمين في قرية عربية استطاع أن يسيطر على أهالي القرية سيطرة كاملة جعلتهم ينصاعون وينقادون إليه انقيادا كاملا، وذلك جريا على العادة المتبعة والتي تقضي بتكريم العلم والمعلمين بالنهوض وشدّ القامات وتوفيتهم حقهم احتراما وتبجيلا ما دام المعلم يكاد يكون رسولا.

وقد لاحظ أحد الأذكياء في تلك القرية التي كان جميع سكانها من الأميين أن سيطرة المثقف إياه على عقول الناس قد تفاقمت إلى الحدّ الذي يجعل من الضروري تحدّيه علنا.

وكان هذا الذكي الأميّ يعلم أنه إذا كانت عملية التحدّي هذه ستحسم عن طريق شهود أميين فإنه لا بدّ أن يكسب الجولة بكل تأكيد. وهكذا بادر إلى جمع الشهود في حشد كبير، وأمسك بعصا طويلة ثم طلب من المثقف أن يخط كلمة حمار على الرمل.

وما أن أنجز المثقف العملية بطرف عصا مدببة، حتى سارع الذكي الأمي -الذي تنتصر له الحكاية الشعبية- لرسم صورة حمار على الأرض ثم هز بعصاه صائحا بالشهود الذين تحلقوا من حوله: أيهما الحمار الحقيقي، حماري أم حمار الأستاذ؟

ولم يتردد الشهود الذين تصنفهم القصة بالأمية المشفوعة بالذكاء في الإعلان عن اختيارهم الذي أسفر عن شدّ المثقف عصا الترحال على الفور.

هل عصر النهضة العربية وهم اخترعه الباحثون؟ قبل سنوات طرحت هذا التساؤل على الأستاذ ألبرت حوراني، المفكر العربي الراحل الذي يوصف بأنه مفكر نهضوي، فأكد أن مفهوم “النهضة” في التاريخ العربي الحديث لا ينطوي على قدر كبير من الشبه بعصر النهضة الأوروبية الذي انبثق من صميم الحضارة الأوروبية، وبدأ بإحياء الاهتمام بالثقافة الإغريقية القديمة، وأدّى إلى التأكيد مجددا على قيمة الفرد والحياة في هذا العالم، والإصرار بشدّة على استقلالية العقل البشري وازدهار الفنون وبخاصة الرسم والنحت والعمارة.

كما أكد أنه على الرغم من أن حركة الفكر والكتابة العربيين تشترك مع عصر النهضة الأوروبي (الرينيسانس) في استخدام مصطلح “النهضة”، إلا أن النهضة العربية حركة أقل اتساعا؛ حركة ذات نوعية مختلفة كل الاختلاف.

يبدو لي أن عصر النهضة العربي، في هذه الليلة الليلاء بعد الألف، مازال سرابا أبعد ما يكون عن اليقين.


ناقد من سوريا مقيم في لندن

15