"ميليشيا الثقافة" تستلهم الواقع العراقي وهي ضده

مازالت ميليشيا الثقافة التي أسستها مجموعة من شعراء العراق قبل عام مضى تقوم بدورها في رصد ما يجري بمدينة الشعراء، عبر الذهاب بالنص الشعري إلى أقاصي منابر القتل، فالصورة القاتمة المشغولة بالانفجارات والمشانق هي جزء مكمّل وأساسي لتجربة ميليشيا الثقافة. “العرب” التقت بالشاعر والمسرحي أحمد ضياء أحد مؤسسي جماعة ميليشيا الثقافة للحديث حول هذه الجماعة، ودور الجماعات الشعرية في إثراء راهن المشهد الإبداعي في العراق.
الأربعاء 2016/08/03
نسلط الضوء على الإنسان

بيوت مهدّمة وأخرى مهجورة، قنابل ومفخخات، صرخات مكتومة، ودماء تكسو ملابس الغرقى، الشاعر هنا ولد على مشانق صباحات الحروب ورأسه محنيّ، وهنا من هذه العناصر اتخذت جماعة ميليشيا الثقافة الشعرية العراقية أرضا لها لتقول للعالم ما آل إليه من خراب.

الفرد والجماعة

بما أن الإبداع فعل فردي بالأساس نسأل الشاعر والمسرحي أحمد ضياء عن إمكانية تطويعه لراية جماعة، إذ من الممكن أن يفقده هذا جزءا مهمّا من بنيته الفنية؟ ويؤكد ضياء هذه الرؤية، حيث يقول “بالضبط الإبداع كما ذكرت هو إبداع فردي، لذلك أخذنا على أنفسنا أن يكون تصوير كل فرد في ميليشيا الثقافة بمعزل عن الآخر حتى لا يكون في المسألة شيء من الحساسية، فحسب بياناتنا السابقة أكدنا على هذه المسألة تحاشيا للوقوع في مطب ‘القطيع”. فالمثقف هنا يجب أن يبرز ذاته كمنتج للفعل، لذا فقد اتخذنا من تجاربنا دليلا على ما أسسنا له في مشاريعنا وللمتلقي الحكم على هذا الأمر من خلال تتبع مسار انطلاقنا في ميليشيا الثقافة إلى غاية اليوم”.

ويضيف “لا يولد الإبداع إلا بأمر فردي وما الجماعة التي أسسناها إلا حركة ضد الساكن والمهمل وهي ضد الواقع ولكنها تتماهى معه أيضا، غرضها تسليط الضوء على مسألة الانتهاك الذي تتعرض له الإنسانية في بلدنا الأغر، طامحة إلى تعديل أو تغيير سلوكيات القتل والموت إلى الحب والألفة”.

وحول اسم الجماعة “ميليشيا الثقافة” ودلالته، يوضح ضياء قائلا “أن تكون في بلد موبوء بالموت، بالقتل، بالدمار، بالأسلحة، التي يملكها صغيرهم قبل كبيرهم، لا بد أن تتخذ موقفا من هذه التراتبات والعوالق الأساسية البصرية التي تشاهدها، وأن يبرز وعيك وسط انهيار منظومة أساسية تبدأ وتنتهي بالموت، وتنتج لديك أفعالا مغايرة للسائد والمترامي، هذا هو الموضوع الذي عملنا عليه، وأغلب الأمور في ذاكرتنا تعنى بهذا الشيء. المناطق التي نسير فيها يوميا أصيبت بانفجارات مختلفة حتى بدأنا نعتاش على فكرتها في نصوصنا، ومحاولة نقل ما نكتب إلى شعرية الحدث، وهو الفعل الذي اتخذناه مسارا رسميا في خلجات وإمكان قراءاتنا الأدائية”.

الجماعة مثل الورشة الأدبية وعمادها الراكز، أن الأفعال لا تقتصر على أحد ويمكن تسميتها مرحلة البراءة الفعلية للكتابة

ويتابع ضيفنا حديثه عن التحديات التي واجهوها، مؤكدا أن على الشاعر أن يكون لسان عصره بدل أن يتعالى عليه، لذا أسسوا هذا الأمر لكي يتماهوا معه لا لأجل شيء آخر، لكن هناك الكثير من التحديات التي تعرضوا لها، فالآخر يرغب في أن يطيح بخطابهم في حين أنهم يسعون إلى إنتاج خطابهم الضد، وأن يودعوا الساكن، فلم تعد برأيه، القاعات الشعرية والجمهور يمثلان المثقف في المسار الأول، ولكن الجمهور الحقيقي الآن هو الذات بالشكل الأول ومن ثمة الفيسبوك كموقع للتواصل الاجتماعي يعتمد عليه الفرد لانتقاء جمهوره، ومن جهة أخرى يلفت الشاعر إلى أن التسمية تشكل معوقا أساسيا وذات دلالات مهمة، وهناك من اتفق عليها ومن لم يتفق.

شعرية الحدث

التجريب والغرائبية وطبائع الدهشة، كلها صور حملتها ميليشيا الثقافة في طياتها مع نصوص مصورة، لكن أحمد ضياء ينفي عن الجماعة صفة الغرائبية، ويقول “لم نكن غرائبيين بالمعنى المراد للكلمة، وإنما هو جزء واقع نمارسه يوميا، إذ نحن صورة من هذا الواقع ولن نكون غير ذلك، فما مارسناه لم يكن فيه أي جانب تزويقي، منذ اللحظة الأولى التي انطلقنا منها وإلى الآن، وهذه هي مرحلة تجديد الفنون ومزاوجتها، حيث لم نؤمن بفصلها المعتاد بل انغمسنا وإياه في برنامج واحد يعالج الهمّ ويعكسه”.

ويتساءل ضياء معنا عن المراد بالتجريب؟ وهل يجب أن نحدد وجهة نظرنا في هذه المفردة ومن يطلقها على من؟ ويعتقد أنها أسئلة رئيسة تتموضع في لب الاشتباك المفاهيمي للمفردة إلا أنه يجده الحل الأفضل للخروج عن الساكن والنسقي، ولإنجاز هذا الفعل سرَّحوا ذاكرتهم من عطبها الطفولي والتجأوا إلى الغور عبر بناء سد يأخذ بعين الاعتبار حالة الوعي ويعمد إلى السير عليها عبر أقانيم اللحظة الشعرية، أو ما يسميه شعرية الحدث الوقتي.

الإبداع لا يولد إلا بأمر فردي وجماعة ميليشيا الثقافة تؤمن بالفرد وتؤسس لحركة ضد الساكن والمهمل

ونسأل ضيفنا عن تمازج النص بالصورة، وهو الأسلوب الذي تعتمده الجماعة، فهل نخضع نصوصهم للشعر فحسب عندما نخلع عنها الصورة؟ ليجيبنا بأن النص والصورة هما عمل متكامل، ويقول “ربّما هنا تبدأ الإشكالية المركزية، هل نحن شعراء فاشلون نتعكز على الصورة لإيصال خطابنا الشعري والمفاهيمي المراد منه مركزة الواقعة الشعرية التي حدثت؟ أجده من اليسير جدا أن نسرق الصورة من تلافيف البيت الشعري ونذهب لتفكيك النص والاشتباك مع بعده كنص شعري خال من البروفة الصورية، ومن ثمة نذهب إلى الاشتباك مع الصورة بعدها كخطاب بصري يبيّن مرحلة حجاجية تعتمد على أساسين هما الباث والمتلقي، فالجدير بالذكر هو عدم الفصل بين ما أسلفت سابقا لئلا نصاب بدوار الأجناسية بل يجب أن نجعل من هذه العتبات مركزا طبوغرافيا يحتوي اليومي والهامشي في إطار مرحلة النص زائد الصورة لبيان حتمية الحالة وتماثلاتها التوثيقية”.

ونسأل أحمد ضياء كشاعر ومسرحي عما أغواه بفكرة الدخول إلى جماعة ما دام قادرا على تحقيق رؤيته كفرد، ليقول “أنا شاعر قبل أن أكون مسرحيا، لم أنضم تحت جماعة بل أسست مع البعض هذه التسمية وبالتالي أنا والآخرون من جيل واحد في حال لو تكلمنا عن مرحلة الأجيال، ولكن هذا الشيء أرفضه رفضا قاطعا، فالمنجز الحقيقي يتعلق بالنص لا بالجيل. الأمر واضح للكثير بأننا نجلس في مقهى ‘الجندول’ نقيم أمسيات شعرية، نتحاور في أمور مفاهيمية، نلخص كتبا، نشتبك معرفيا، نمثل معا، نخرج معا، ببساطة كنّا في ورشة يومية تسودها المحبة والألفة، وميليشيا الثقافة نتاج هذه الورشة وعمادها الراكز، ومنذ بدأنا بالأمر لم تكن الأفعال تقتصر على أحد وأنا أسميها مرحلة البراءة الفعلية للكتابة، ومن ثمة بدأ التنمر على ميليشيا الثقافة وبدأنا نسمع كلاما لا أعتقد أنه ملائم بأن يقال بحق هذا التقدم الذي شهدناه، والجدير بالذكر أن المشاريع الجديدة التي قدمناها هي المسار الحقيقي لتثبيت رؤانا التي انطلقنا وأسسنا لها في بادئ الأمر أي فردية الشاعر، فالشاعر هو الوحيد المسؤول عن نصه وعن ميكانيزمات التشكل الصوري له، ومن ناحية أخرى فإن المجال واسع في ميليشيا الثقافة فذراعاها مفتوحتان لمن يرغب بالدخول إليها شريطة أن يكون واعيا بما يقوم به ومؤمنا بالطرح الذي تعمده وتتبناه”.

ويضيف الشاعر “نحن العين الراصدة لسلوكيات الإنسان وهيمنته اليومية، فهو القاتل والمستأجر العنيد، الذي يبني سلطته فوق رؤوس الفقراء، الشاعر في ميليشيا الثقافة مدرك لهذا الهم اليومي وهو يعالج بحر البوح من أفئدة الموتى المترامين على عمارتنا بأوصال متقطعة أو الغرقى الذين لا حول لهم سوى أنهم ودوا العيش بحياة كريمة”.

15