موسى عمر فنان عُماني ينسج من خيوط الخيش أغنيات للشمس

المتأمل في أعمال الفنان العماني موسى عمر يجد أنها تبدأ وتنتهي بامرأة ويدور كل شيء بعد ذلك حولها.
الجمعة 2021/02/19
الخامات الطبيعية تتشكّل ألوانا وخطوطا

لا يمكن قراءة تجربة الفنان التشكيلي العماني موسى عمر بمعزل عن النسق التراثي الأصيل الذي تعوّد الاشتغال عليه منذ أزيد من ثلاثة عقود، وهو في ذلك يوظّف خامة الخيش جماليا ليمنحها سياقات تشكيلية متنوعة بدت جلية في معرضه الافتراضي الأخير المعنون بـ”أغنيات الشمس”.

مسقط – يتواصل حتى الخامس عشر من مارس القادم المعرض الافتراضي “أغنيات الشمس” للفنان التشكيلي العماني موسى عمر، الذي يضم 20 عملا فنّيا متنوعا باستخدام خامة الخيش بأحجام مختلفة وبألوان الأكريليك الساطعة.

وحول المعرض يقول عمر “تشرق الشمس فتستيقظ الحياة في شرايين الأرض، مشهد يتكرّر كل صباح حيث الضوء يغمر بألوانه تفاصيل الكائنات والعناصر.. أفتح النافذة فتتدفّق في أرجاء مرسمي أغنيات ملونة لم تنهكها الرحلة الطويلة التي قطعتها من عمق المجرة. كل واحدة من تلك الأغنيات تحمل لي في كل صباح فكرة تشكيلية جديدة تدفعني إلى الاحتفاء بالكون والحياة”.

وفي تجربته التشكيلية الجديدة بدا عمر كعادته مأسورا بما تختزنه خامة الخيش من إمكانيات هائلة مكّنته من توظيفها جماليا في سياقات تشكيلية مختلفة، فمن خيوط الخيش ينسج أغنياته للشمس، ومن تلك الخيوط يرسم كيف تحتفي الكائنات والعناصر بدفء الشمس وألوانها.

موسى عمر: كل صباح جديد يحمل لي فكرة تشكيلية مختلفة عن التي سبقتها
موسى عمر: كل صباح جديد يحمل لي فكرة تشكيلية مختلفة عن التي سبقتها

تجريب مستمر

قدّم الفنان التشكيلي العماني حمد الجابري قراءة فنية حول المعرض، قال فيها “كعادته يجدّد موسى عمر تجربته بين حقبة وأخرى، ليجد ضالته في الفن من خلال الفكرة وطرق أدائها، فيشتغل على الخامات المختلفة وبخاصة الخيش وألوان الأكريلك وغيرها، في حالة مستمرة من التجريب، حيث يتآلف الشكل والمضمون من خلال المساحات اللونية المفتوحة والغنية في الأعمال، مكثفا لغة الرمز ليوحي بالحقب المتعاقبة، ويبيّن الجانب الإنساني والصراعات الفكرية والعاطفية في مفردات العمل الفني التي تترابط مع بعضها في تكوين متصل بحركة مستمرة ترمز إلى ديمومة الحياة”.

وعمر المغرم بالتجريب وبمحاولات البحث عن صيغة جديدة له، يقدّم في معرضه الأخير كل ما هو مبتكر ومختلف سواء من حيث الخامة أو التقنية والألوان.

ويسعى الفنان العماني طوال مسيرته التي تتّسم بغزارة الإنتاج إلى إيجاد صورة مختلفة، لكنها أصيلة تحاكي الأنماط المخزونة في الذاكرة، والتي قد تبرز فيها مفردات الماضي، إلاّ أنها في المقابل مفعمة بتشكيلات الحاضر والمستقبل وفق رؤية فنية شديدة الحساسية قادرة على المزج بين الأصالة والمعاصرة.

وتختصر تجربة الفنان عمر الكثير من التفاصيل الداخلية والصياغات التي تعمل على تشكيل توليفة متناسقة بين اللون والظل لإيجاد مدن مختلفة، لكنها متجانسة بشكل يحلم به كثيرا ليبدو مترسّخا في كل أعماله.

وهذه الثيمة لاحظها بجلاء كبير الناقد التشكيلي العراقي نوري الراوي الذي قرأ تجربة عمر فوجده يرصد مدينة عجيبة في أعماله، تلك التي تسكن عالما رؤيويا تشكّل على مفترقاته اعترافات المشاهدين وحواراتهم الصامتة، فيما تمنحهم الدواخل فرصة التنفّس في فضاء آخر يفرضه حق الانفتاح والامتداد خلف (عالم المرايا)، حيث تتوزّع صوره وأشكاله المتناثرة على مساحة حدسية واسعة من الصعب تمثلها أو تقليدها، لأنها تتمثل في كينونة هي أقرب إلى جوانب الحب منها إلى أي شيء آخر.

وعمر فنان شديد الحنين وشديد الارتباط بالذاكرة، يسترجع في جل معارضه ذكريات الطفولة والنشأة المختزلة للكثير من التجارب، لكن تلك التجارب وذلك الاختزال لا يأتي هكذا دون أن يجترّ معه التفاصيل الملموسة فهو يستخدم ألوان الأكريلك على القماش أو الخشب، إلى جانب لمسات من خامات أخرى بين الحين والآخر كالفحم والباستيل، وفي بعض لوحاته يستخدم الكولاج أيضا، ويضع قطعا صغيرة هي زركشات من ملابس نسائية.

والمتأمل في أعمال الفنان العماني يجد أنها تبدأ وتنتهي بامرأة ويدور كل شيء بعد ذلك حولها. وهو يجترّ خلال ذلك الكثير من الذكريات والكثير من الأحداث التي تكون المرأة مركزا أساسيا لها.

ألوان طينية

Thumbnail

يتحرّك عمر في لوحاته بمهارة وحميمية على الأرضية مستمدا ذلك من خصوصية الواقع والموروث العماني، إذ يرى أن حضارة العرب أقوى بكثير من غيرها، وهو لا يعني بذلك التأسيس على مجريات الإبداع في العالم، ولكنه يعتقد أن توافقا أكثر يتحقّق ويتأكّد بين تكوينه ومحصّلته التاريخيين، وبين تقنيات المعاصرة.

ويلجأ الفنان إلى استخدام ألوان أقرب إلى منطق القرية العمانية، إن لم تكن ألوانا طينية لربط الحالة بالأرض. فالأشكال الهندسية تأخذ لديه منحى دلاليا مغايرا يتحقّق من خلال علائق ديناميكية، تربط في ما بينها، فضلا عن الدلالة الفلكلورية لهذه الأشكال، فهو يرسم روح الأشياء وروح المعنى، لا روح الكائن، محدّدا للمشاعر والقيم شكلا ولونا، من خلال دراما لونية تبحث عن مهارة بصرية تكفل للمتلقي المتعة وللمبدع التواصل. وعن ذلك يقول الفنان ماهر حسن “ما التشكيل عند عمر سوى لحظة بوح جميلة بسكونها وهواجسها وصخبها وأحلامها وألوانها”.

ولا يصنّف منجز الفنان العماني ضمن مدرسة فنّية بعينها؛ فهو لا يذهب بالمتلقي إلى نهاية الأشياء، بل يضعه عند بداياتها وعلى المتابع لمنجزه الفني أن يكمل المشوار وحده وسط الأساطير والموروث، بين الظلمة والضوء، بين الصمت والصراخ وبين العتمة والوضوح.

وبشكل عام فإن المشهد الشعبي الذي يقدّمه عمر في مدنه الطينية، ليس مشهدا ينطلق من مناخات السوق، بل مشهد يعبّر عن موقف جمالي وإنساني وفق عاطفة جيّاشة تأخذ الفنان بتأملات بصريات الطفولة ليستذكرها في مناخات السطح التصويري الجديد الذي أعطاه صفة مهمّة في ما يذهب إليه من تحقيق في تلك المشاهد من خلال أكثر من صياغة تتّصل بالتفكيك والتركيب، فهو يقوم بإعادة إنتاج المشاهد الفطرية في المادة البصرية المتاحة ليقدّمها كلغة إنسانية وعالمية دون أن تفقد معناها وصفتها الشرقية.

وعند عمر تتحوّل الزخارف النباتية إلى إشارات وخطوط تم تفكيكها لتتناغم مع صياغاته البصرية في السطح التصويري الواحد، محافظا بذلك على رائحتها الأولى.

ويمزج الفنان العماني بين الحداثة والأصالة من خلال مشهديات بصرية تجمع بين فضاء التصوير الغربي وبين مادة الشرق البصرية، حيث يقدّم جذوره وما ينتمي إليه بلغة العصر، وهو لا يتنازل عن ذلك أبدا، كونه يمارس متعته في إيجاد تلك الأجواء التي تجمع بين حداثته وتاريخه البصري.

ويعتبر الفنان التشكيلي عمر من أبرز الفنانين التشكيليين العمانيين، وله العديد من المشاركات الفنية من المعارض الشخصية والمشتركة وتقديم الورش الفنية، وحصل على العديد من الجوائز على المستوى العربي والعالمي، حيث أقام أكثر من خمسة عشر معرضا شخصيا في كل من السلطنة، والبحرين، ومصر والكويت وقطر الإمارات وألمانيا.

كما عرض أعماله في العديد من المعارض المشتركة سواء العربية أو العالمية، ومؤخرا شارك في العديد من المعارض الافتراضية خلال جائحة كورونا في كل من مصر وقطر والسعودية.

Thumbnail
17