موسى عمر.. رسام الموروثات العمانية في حياتها اليومية

الرسام العصامي عرف كيف يزاوج بين الواقع وحلمه في أن يكون رساما واستخرج من مهنته مادة لخيال موهبته.
الأحد 2023/09/17
بئر الواقع وشرفة الخيال

في كل الأحوال فإن الرثاء لا ينفع في وصف تجربة فنان، سيكون على الأجيال الفنية القادمة من المستقبل أن تراها كما لو أنها تسعى إلى التوصل إلى خلاصاتها.

الرسام العماني موسى عمر الذي غادرنا منذ وقت قصير كان يراهن على شيء من ذلك القبيل. لم يكن معاصرا لأن عينه ظلت مصوّبة على جماليات الصناعة اليدوية الشعبية ولم يكن تراثيا لأنه استعمل المواد التي يستعملها الفنانون الشعبيون لكن بتقنيات مختلفة وهو ما مكّنه من إنتاج صور مختلفة.

بوكس

الرسام  في غبطة حرفته

“أعدك بالرسم ولكنني لم أنته من الصناعة”، كان يقول لي وهو يقصد أن خياله لن يذهب أبعد مما تفعله يداه وهما يدا الصانع.

تربّى موسى عمر لكي يكون صانعا محترفا. تلك كانت حرفته. الكثيرون ممَن أعجبوا به وبأعماله لم يكونوا يعرفون شيئا عن مصادر رزقه. بالتأكيد لم يكن الرسم أحد تلك المصادر. ولكن الرسام العصامي عرف كيف يزاوج بين الواقع وحلمه في أن يكون رساما. وكما أعتقد فإنه استخرج من طينة مهنته مادة لخيال موهبته.

على المستوى العربي كان موسى عمر فنانا تجريبيا غير أنه وكما عرفته لم يكن ينظر إلى تجربته بعيدا عن سياقاتها التاريخية. يعرف أن لا شيء يمكن تسميته بالرسم العماني غير أنه كان في الوقت نفسه يثق في أن كل فكرة يستعيرها من أيدي الصانعين هي نوع من الإلهام.

علاقة مرتبكة بمرجعياته وأيضا بما يتبقى من أثر في الحاضر قبل أن نتحدث عن المستقبل.

اليومي والخيالي

ولد موسى عمر في ولاية مطرح عام 1971. مثل سواه من فتية تلك المرحلة انتمى عمر إلى مرسم الشباب وهناك تعلم أصول الحرفة وطريقة  التعامل مع المواد. وبالرغم من أنه لم يتلق الفن عبر دراسة أكاديمية منتظمة وممنهجة فإنه نجح في أن يقتحم المشهد الفني العربي ويكون ممثلا لبلاده في الكثير من المحترفات واللقاءات الفنية. عمل في القصور السلطانية ومن خلال عمله اهتدى إلى الكثير من أسرار جماليات الموروث المحلي والعربي وبالأخص في مجال الزخرفة، التي صار يتبع إيقاع تأثيرها في المباني والثياب، وهو ما انعكس على أسلوبه الذي كان في جزء عظيم منه محاولة لجعل الطرق سالكة بين الموضوعات اليومية والمعالجات الخيالية.

بوكس

وما الملمس الخشن لسطوح لوحاته إلا نوع من النفاذ بتلك المحاولة من طابعها النظري إلى طابعها العملي. ففي مهنته كانت  العلاقة بين الناتئ والغائر تجسيدا لبعد خفي يمكن اعتباره شيئا وهميا. وهو ما يزيل الحواجز بين المرئي واللامرئي بحيث يتعامل معهما الرسام كما لو أنهما الشيء نفسه.

استفاد موسى عمر كثيرا من مهنته. سيكون عليه دائما أن يعتبر نفسه رساما ضيفا في المواقع التي يعمل فيها وعاملا ضيفا في مرسمه. هذه الازدواجية خدمته وقرّبته من مفهوم الاحتراف. كما أنها فتحت الطريق أمامه للتعرف بروية على عبقرية الإنسان العماني عبر العصور، والتي تجلت من خلال الصناعات الجمالية التقليدية.

نعومة الملمس وخشونة المعنى

 مزج الرسام موسى عمر الأشكال بموادها فكانت لوحاته نسيج خيال يستمد قوته من صلته الخفية بالواقع. في كل لوحة من لوحاته حاول عمر أن يستدرج خياله إلى ممرات حياة خفية لم يعشها شخصيا غير أنه حرص على أن يرى نتائجها في متاهات الزخارف المحلية وإيحاءات أزياء النساء المحتشمة.

 كانت عمانيته تغادر الحاضر ذاهبة إلى الحكايات الأسطورية بكل ما انطوت عليه من أفكار تتنقل بين النعومة والخشونة. نعومة المعنى المترف وخشونة الملمس في محاولة منه لكي تستقل لوحته بعالمها بمعزل عن مرجعياتها التي لا تعود إلى زمن بعينه.

 خلق الرسام العماني زمنه الخاص الذي عبّر عنه من خلال طبقات من السطوح التي تتجاور عن قصد فيما هي في حقيقتها يخفى البعض منها البعض الآخر لتصل إلى عجينة خلقها. وهي المادة التي صار عمر يستخرج منها أشكاله بيسر وعفوية وهي انعكاس لطريقته في التفكير وأسلوبه في التعبير عن أفكاره.

بوكس

لقد قُدّر لي أن أتعرف على عمر من خلال رفيق رحلته الفنية الرسام حسين عبيد. كان الاثنان متجاورين في الصداقة لا تجمع بينهما تقنية ولا أسلوب ولا فكرة، فانتهيا إلى خلق عالمين لا يكمل أحدهما الآخر بالرغم من أنهما استلهما الواقع المحلي نفسه.

ولعُ عبيد بالطبيعة دفعه إلى خلق عالم تجريدي هو مرآة لقلق الطبيعة في ترددها بين البحر واليابسة فيما كان خيال عمر مستغرقا في البحث عن ضالته في جماليات الحرف اليدوية التقليدية.

 كانت المسافة بينهما تتسع مع مرور الوقت. ولست متأكدا من أن موسى عمر كان على معرفة من أن علاقته بمرجعياته صارت أكثر قوة في نهاياته مما كانت عليه في بداياته. بعكس ما حصل مع رفيقه حسين عبيد الذي انفصل عن مرجعياته الطبيعية وصار ينتج العمل الفني لذاته ومن خلاله خالقا عالما متحررا برؤى يغلب عليها طابع التأمل.

إلى آخر أعماله ظل موسى عمر مستغرقا في النبش بين طبقات جمالية كانت جاهزة، بحثا عن ذاته التي وزّعها بين أشكال تركيبية هي التعبير الأمثل لمزاجه التعبيري.

 انتهى موسى عمر إلى مجموعة من الخلاصات الجمالية التي سيكون لها عميق الأثر على طريقة تفكير فناني بلده في ما يتعلق باستلهام التراث الشعبي جماليا. تلك خلاصات يمكن استخراجها من أعماله التي سعى من خلالها إلى التعبير عن وقع المرئيات بكل حمولتها النفسية على طريقة تفكيره في الفن. وهي طريقة لا تغفل أهمية المادة المحلية المستعملة ولا تبقى في حدود الشكلانية الجاهزة. أقام الفنان حوارا خفيا بين مواده والأشكال التي استبطنها ليصل إلى أسلوبه في التعبير الخام.

ما الذي يبقى بعد الموت؟

بوكس

يصعب عليّ أن أطرح سؤالا من نوع “ما الذي سيبقى من موسى عمر؟” أولا لأنه كان صديقي والناقد أو المؤرخ مهما كان نزيها ومنصفا فإنه يقع تحت تأثير الصداقة، وثانيا لأنني لا أستطيع أن أفكر نيابة عن الرسامين الشباب العمانيين

الذين لهم حصة في موسى عمر أكثر من حصتي.غير أن الأمر لا يثقل عليّ حين أقول فن موسى عمر لم يكن حدثا عابرا ولن يُمحى أثره إلا إذا تم تطويره بطريقة تجعل من موسى عمر أيقونة أجيال لا تُنسى. هناك الكثير من الاكتشافات الجمالية ما كان لها أن تحدث لولا ولع الفنان بالتفتيش في خزانة الجمال العماني.

• أعدك بالرسم ولكنني لم أنته من الصناعة
 أعدك بالرسم ولكنني لم أنته من الصناعة

 

8