مهمتي الكتابة.. هذا ما يفرضه زمننا العربي اللاشعري

كنت دائما أردد أنني كشاعر، جئت من الأبواب الخلفية، لم أفكر في البدايات أن خيانة الرسام الذي كنته لسنوات طويلة، ستكون هي مصيري الأوحد في الحياة، وأن الشعر، مهما كانت أمكنته غامضة في داخلي، سيكون نقطة انطلاق نحو فهم العالم والوجود. سؤال “لماذا؟” لم يخطر ببالي كثيرا، لكنه يصلح كسؤال شعري داخل النص، وأذكر في كتابي “الرقص بأطراف مستعارة” قصيدة العتبة الأولى التي أطرح فيها السؤال ذاته، وأعتقد أن الإجابة، المترددة، وغير الحاسمة، تصلح دائما لأجدد الإيمان بها “أكتب بدافع الضجر” وطبعا “أنتصر بلا تردد للعادي، للأشياء التي تتأخر في أن تصير عادية، لأسباب واهية”.
لعل فكرة المشروع الشعري بالنسبة إلي، لا تتشابك مع مفهوم الفكرة كامتياز، بقدر ما هي على علاقة بما أحاول كتابته وأستمر فيه، الطريق طويلة ووعرة ولا تخلو من المطبات، لكن الأهم هو الاستمرار.
كثيرة هي التجارب الشعرية التي اكتفت بخطوة أو خطوتين ولم تكمل الطريق، أتحدث عن الجزائر على الأقل. مشروع الشاعر الخاص، بعد أن يختار كيف يكتب الشعر، يأتي من جدوى الكتابة، وقد لا تكون لها جدوى أصلا، لأن الشعر قوي بهشاشته وربما في عدم جدواه، سوى أنه يكشف أخطاء الحياة الرهيبة، بل ربما يتعامل مع العالم كخطأ يصعب تصليحه، وهي محاولة تتكثف بالتجربة، واللغة، والأسلوب، والتجريب، وهو ما أحاول عمله، بالكتابة ولا غير، كورشة مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها معارضة الذات، وتحطيم المرايا، والشك الدائم.
نشرت خلال عقد من الزمن، أربعة كتب شعرية، وهي خلاصات صغيرة لطموحات كبيرة لم ولن تتحقق، سواء في القصيدة أو خارجها، فعمل الشاعر ليس سيزيفيا ولا يحتاج إلى عذابات كبرى، أو تباك عند عتبات ما يريد للنقاد أن يكتشفوه في شعره.
◙ الشاعر يكتب في الكثير من الأحيان انطلاقا من مأزقه الوجودي، وربما بتراكم هذه "الوقائع العجيبة" يصبح الخيال الشعري بمفهومه المتداول، موضة قديمة
مهمتي الكتابة، هذا ما يفرضه زمننا العربي اللاشعري، ولا تفكير في غير ذلك، لأن هناك خللا هائلا قد يحتاج شرحه إلى مساحات أكبر، وهو الهوة التي تبتلع الكثير من النصوص الشعرية الجيدة، وتمنح الفرصة لأخرى كي تطفو كجثث لا روح فيها على السطح. لا أنكر أن ما حدث من كتابات انتبهت إلى قصيدتي منذ كتابي الأول، كاف بالنسبة إلي وفيه التقاط مرعب، لجماليات النص وهفواته، وربما انتباه عدد من الذين قرأوا ما كتبت إلى حد اليوم والأصدقاء الذين رافقوني خلال هذه المدة، هو محرض على المغامرة واقتراف المزيد من الكتابة في حقل مليء بالألغام.
نحن من يخلق آباءنا إن جاز القول كما أورد الناقد والمفكر المغربي عبدالفتاح كيليطو في إحدى كتاباته، وحتى لا أعمم، أنا مجموعة أصداء لأصوات كثيرة، وحتى يصبح لدي صوتي الخاص، ولا أدري متى وكيف ولماذا؟ تظل تجارب الآخرين المد والجزر الذي تحتاجه لتبقى كاتبا، وأن العالم مهما أغلق في وجهك أبوابه، هناك دائما طريقة ما لتجاوزه.
والطريقة ببساطة ودون تكلف، هي قراءاتنا التي تتقاطع بالضرورة مع تجارب الحياة، في جوهر حقيقي وعميق. الأسماء الشعرية في الزمن الحاضر موجودة، ولها حضور لا يختلف عن حضور الذين سبقوها وتصدرت أعمالهم على اختلاف قيمتها الجمالية المشهد، لكن كما قلت إننا في زمن لاشعري، زمن لا أدبي حتى، ومليء بالتناقضات والكثرة التي تجعل القلة على جودتها تخبو.
استكمالا لما قد يكون على صلة بما قلت سابقا، أن تلك القلة التي تكتب نصوصا جيدة من الشعراء، لا تلقى الاهتمام اللازم. لكن هذا الحكم الجاهز الذي يقول إن هناك من أغرق السوق بكتابة خرقاء، هو إحدى الحماقات التي يروجها البائسون من أصنام الثقافة والمؤسسات الثقافية الرسمية وأصحاب دور النشر التجارية وغيرهم، متناسين أنهم يتحملون مسؤولية تواجدها.
هناك أكثر من شاعر مهم، والأهمية، طبعا، لا تقاس بمقاييس بالية لم تعد تواكب تطور الكتابة وانفتاحها على التجارب العالمية. وهنا يكمن جوهر المشكلة، فما هو رائج ومبرمج للدراسة والمتداول والمستأثر بالمنابر لن يكون بالضرورة هو الأهم. هناك تراكمات كلسية تمنع القارئ المتكاسل من الوصول إلى عمق الكثير من التجارب الشعرية الحقيقية اليوم، ربما يحتاج الأمر إلى حركة هامشية تنتفض على السائد لتزيحه، لا لكي تأخذ مكانه، بقدر ما تفتح المجال إلى المزيد من الحرية والهواء غير المستعمل.
الصمت قد يكون وليد صدمة ناجمة عن هذا الواقع الغرائبي المرعب، والذي يضعنا أمام سؤال جدوى الكتابة باستمرار، ذلك أن الشاعر أصلا يكتب في الكثير من الأحيان انطلاقا من مأزقه الوجودي، وربما بتراكم هذه “الوقائع العجيبة” يصبح الخيال الشعري بمفهومه المتداول، موضة قديمة. لكن، للشعر وفي الكتابة عموما مداخل أخرى، على الشاعر أن يبحث عنها، أن يكتشفها، أن يبتدعها وأن يكون أصيلا في محاولته، لأن الأدب هو طبقة واحدة من الواقع مهما كان غرائبيا وعجائبيا وطبقات من الخيال التي تفكك ذلك الواقع وتعيد تركيبه من جديد.
• ينشر المقال بالاتفاق مع "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية