من يطيح بحكم العائلة في ليبيا

هناك ملاحظة يمكن التوقف عندها في ليبيا اليوم وهي أن لا أحد يصدق أحدا. استدراج عبدالغني الككلي باسم الحوار إلى معسكر التكبالي بطرابلس لتصفيته مع مرافقيه، لا يختلف عن استدراج مهدي البرغثي للعودة إلى بنغازي تحت شعار المصالحة، ليتم اغتياله مع مرافقيه كذلك. هناك من يتذكرون قائمة طويلة من الاغتيالات، لا تتوقف عند حنان البرعصي، سهام سرقيوة، أو إبراهيم الدرسي، وهي تدل بكل وضوح على انفلات عقيدة الوحش داخل عقول حملة السلاح وقلوبهم، وأصحاب السلطة، والممسكين بمفاتيح الثروة، ممن يعتبرون البلاد غنيمتهم التي لن يتخلوا عنها بإرادتهم. هم يفكرون في توريث السلطة والنفوذ لعقودٍ قادمة.
يعتقد آل حفتر وآل الدبيبة أنهم قادرون على تكريس نظام حكم الأسرة. الحكم المطلق والمال الوفير جعلاهم يحاولون التشبه بأنظمة الحكم في الخليج أو في بقاع أخرى من العالم، ناسين أو متناسين أن لتلك الأنظمة شرعيتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي وليدة توازنات قبلية وعشائرية ومناطقية، وتحظى بالبيعة والولاء أبا عن جد. كما أن حكامها عاشوا مع شعوبهم شظف العيش قبل اكتشاف النفط والغاز، وتحقيق الثروة، وبناء النهضة.
في ما يتعلق بليبيا، حكم الملك إدريس السنوسي من عام 1951 إلى الأول من سبتمبر 1969، عندما أطاح مجموعة من الضباط الشباب، بقيادة معمر القذافي، بالنظام الملكي، وأقاموا النظام الجمهوري على غرار الكثير من دول المنطقة. مع ظهور مؤشرات على بوادر الصراع على السلطة، أعلن القذافي في الثاني من مارس 1977 عن قيام “سلطة الشعب”، وإطلاق النظام الجماهيري، الذي يُعد شكلا آخر من أشكال حكم الأسرة وضمان السيطرة على مقاليد السلطة دون أيّ منافس، لأنه لا يوجد في الأصل مجال أو فرصة للمنافسة.
◄ المقربون من الدبيبة ينقلون عنه أنه ينوي الاستمرار في الحكم 20 عاما. التواصل مع آل حفتر للتنسيق زاد من تكريس مبدأ تقاسم النفوذ في البلاد، مع الحفاظ على التوازنات الداخلية والخارجية
بعد 42 عاما، تمت الإطاحة بالنظام الجماهيري عبر تدخل خارجي مباشر، في سياق مشروع “الفوضى الخلاقة”، الذي لا تزال ليبيا تعاني منه حتى اليوم. ما حدث في ليبيا لم يكن امتدادا لجارتيها تونس ومصر، وإنما للحالة العراقية في عام 2003، عندما تعرضت البلاد للغزو بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين، ثم تسليمها للميليشيات المسلحة، التي تشكلت على أيدي مجرمين فارين من السجون أو معارضين متطرفين قادمين من الخارج، تحت ظلال بنادق الغزاة.
منذ 14 عاما، لا تزال ليبيا تعاني من التخريب، وتدمير المقدرات، ومن نظام النهب الممنهج إلى الثروة، وكذلك من التدخلات الخارجية السافرة والمفضوحة. الثابت والمؤكد أن مسؤولين كبارا في أنظمة عدة، ودبلوماسيين، وخبراء، ومبعوثين أمميين، استفادوا من المال الليبي السائب. فمن لا يمارس الفساد في بلاده خوفا من القانون المحلي، يمكنه ممارسته في ليبيا، كما حدث سابقا في العراق.
هناك أسرتان لا تتقاسمان فقط النفوذ والسلطة، وإنما كذلك شكل النظام الجديد الذي تسعيان إلى تكريسه وترسيخه. فالمهندس عبدالحميد الدبيبة يبقى أولا وأخيرا عاملا تحت إمرة الحاج علي الدبيبة، الذي جاء من مهنة التعليم في ثمانينات القرن الماضي، ليصبح يد القذافي وساقه وعينه وأذنه في المشاريع العمرانية. وكان مسيطرا بالكامل على بصر وبصيرة “الأخ القائد”، بسبب علاقات خاصة حالت دون مراجعة تصرفاته كمدير جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية، الذي شكل أكبر جهاز تنمية في البلاد، حتى عرفه الليبيون بـ”جهاز الدبيبة”. لم يكن بالإمكان التوقيع على أيّ عقد من دون عمولة توضع في رصيد الأسرة، التي وصل تأثيرها إلى حد عرقلة مشروع “ليبيا الغد” بقيادة سيف الإسلام القذافي.
ربما من عبث الأقدار أو مكر التاريخ، أن الدبيبة كان وراء تمويل أهم التحركات التي أدت إلى الإطاحة بالنظام الجماهيري. فالليبيون يدركون جيدا أن أول من انقلبوا على النظام هم المستفيدون منه، وخاصة رجال الأعمال، ممّن استفادوا من القروض والمساعدات، وممّن علقت بهم قضايا فساد مالي وإداري.
في عام 2020، قرر الدبيبة وضع يده على الحكم، والاستفادة من فرصة ملتقى الحوار الذي انعقد في تونس في نوفمبر من ذلك العام. كان هدف الأسرة الوصول إلى الحكم، لرفع التجميد عن أملاكها داخل البلاد، وإلغاء الملاحقة القضائية.
من الطبيعي أن يتم استعمال أكثر الأساليب والأدوات إقناعا لتوجيه نوايا التصويت في ملتقى جنيف في فبراير 2021، وضمان نجاح قائمة عبدالحميد الدبيبة، ومساعديه الذين تم اختيارهم بدقة لرئاسة وعضوية المجلس الرئاسي، وهم محمد المنفي، موسى الكوني، وعبدالله اللافي.
◄ آل حفتر وآل الدبيبة يعتقدون أنهم قادرون على تكريس نظام حكم الأسرة ناسين أو متناسين أن لتلك الأنظمة شرعيتها وهي وليدة توازنات قبلية وعشائرية وتحظى بالبيعة والولاء أبا عن جد
منذ أن تربع عبدالحميد على كرسي رئاسة الوزراء، كان هناك رئيس فعلي للحكومة، وهو إبراهيم، ابن الحاج علي، الذي نجح حتى الآن في تكريس حكم الأسرة، بهدف ضمان المصالح التي لا تتوقف عند حد. المليارات تبقى دائما غير كافية، ما دام الباب مفتوحا لنيل المزيد. رفع التجميد وإلغاء الملاحقة لا يكفيان، طالما أن هناك إمكانية للبقاء في السلطة لسنوات أخرى.
المقربون من الدبيبة ينقلون عنه أنه ينوي الاستمرار في الحكم 20 عاما. التواصل مع آل حفتر للتنسيق زاد من تكريس مبدأ تقاسم النفوذ في البلاد، مع الحفاظ على التوازنات الداخلية والخارجية.
هناك حقيقة يمكن التوقف عندها، وهي أن صاحب الثروة أقدر من صاحب الفكر على فهم الناس. وصاحب السلطة والثروة معا يستطيع اتخاذ قراراته بالشكل الذي يخدم مصالحه.
اليوم، هناك محاولات للإطاحة بأسرة الدبيبة من الحكم، ولكنها من الصعب أن تحقق النجاح. كلمات عبدالحميد الأخيرة جاءت لتؤكد أنه غير مهتم بمن يموت أو يعيش، ومظاهرات الغضب لا تعني له شيئا. الإدانات الداخلية والخارجية لقمع المحتجين مجرد بيانات سرعان ما تُنسى في زحمة الأخبار. المجتمع الدولي يبدو عاجزا عن التعامل مع حالة ليبيا اليوم.
أسرة آل حفتر في الشرق مستفيدة بدورها من بقاء الوضع على ما هو عليه، وحكومة أسامة حماد تقوم بدورها على ما يرام. صدام حفتر يصول ويجول من أنقرة إلى واشنطن، لعقد صفقات المستقبل. وعندما يجتمع صدام وإبراهيم الدبيبة، سيضحكان كثيرا من مواقف المسرفين في التفاؤل، بأن الوضع قد يتحسّن يوما ما.
لولا الناتو، ما كان للنظام الجماهيري أن يسقط، ولو بعد قرن آخر. قد تحتاج ليبيا يوما ما إلى تدخل دولي جديد لإنصاف الشعب المظلوم.