من يسرق القمر

يُحكى أن كريستوفر كولومبوس عندما وصل إلى سواحل القارة الأميركية عند اكتشافها؛ هدّد سكانها الأصليين من قبائل الهنود الحمر بأنه سيسرق منهم القمر إذا لم يمنحوه الطعام والشراب اللذين يكفيان طاقمه للبقاء على قيد الحياة.
لم يُصدّق الهنود الحمر حينها أن هذا “القرصان” قادر على تنفيذ تهديده؛ إذ أن الفلكيين الذين رافقوه قد أعلموه أن خسوفا كاملا سيحدث بعد أيام؛ ولما غاب القمر بالفعل هاج المساكين ووقعوا تحت تأثير الظاهرة الفلكية؛ وركعوا يتوسلون إلى كولومبوس لإعادته إليهم بعد أن تعهدوا بتنفيذ جميع أوامره حرفيا!
وفي الليلة التالية، عندما عاد القمر “بدرا” مكتملا؛ فرح السكان “السُّذج” ورقصوا معتقدين أن قرصان البحر الشهير أعاده لهم، لذا نسجوا الكثير من الأساطير حوله تزامنا مع ما قد تمكن منهم من“خزعبلات” دينية!
في تلك الحادثة اعتقد الهنود الحمر أنهم ربحوا طقوسهم الاحتفالية بالقمر ولكنهم، للأسف، أبيدوا بالملايين في أقسى مجزرة بشرية قام بها الرجل الأبيض في التاريخ، خسروا فيها أرضهم وبلادهم وأرواحهم أيضا.
يشرح العالم والفيلسوف العربي ابن رشد ذلك بقوله إن “التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المُجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإن أردت التحكم في جاهل، عليك أن تُغلف كل باطل بغلاف ديني”.
مقولة ابن رشد هذه، فضحت مبكرا جداـ وقبل قرون ـ الكثير مما نعانيه هذه الأيام في عالمينا العربي والإسلامي من تجارة رائجة بالدين ـ أي دين! ـ نجح فيها متسلطون ومدعون في اللعب بالعقول، واستغلال الجهل في تمرير أجندة التطرف والتكفير كمقدمة لما هو أبشع.. الإرهاب واستحلال الدماء والرؤوس.
صحيح أن أوروبا في عصورها الوسطى وقعت في ذات الفخ المأساوي الذي مورست فيه أبشع جرائم الافتئات على “الرب” وتوزيع صكوك الغفران، لكنها نجحت لاحقاـ عبر أكبر حملة تنويرية فكرية وفلسفية وعلمية ـ في الخروج من مأزقها، لتقدم للحضارة الإنسانية نماذج رائعة تجاوزت الأرض لتحلق في الفضاء والوصول إلى القمر ذاته، فيما لا نزال نحن غارقين في جدلياتنا العقيمة حول “دم الحائض” وإشكالية “دخول الحمّام بالرجل اليمنى أم اليسرى”؟
مشكلتنا الآن باختصار، أن أتباع “مولانا” كولومبوس يعيشون بيننا؛ ربما يخطبون في مساجدنا؛ يعظوننا وينصحوننا في فضائياتنا وإذاعاتنا.. يمشون في شوارعنا؛ يسكنون ذات عمائرنا ويلعبون في إيماننا وضمائرنا.. والمؤسف أننا مازلنا هنودا حُمرا!