من يؤيد العدوان التركي

لسبب ما أجهله شخصيا ويشاركني في ذلك كثيرون، تذكر العالم فجأة الاحتلال التركي لسوريا، أو بتعبير آخر تحول الوجود التركي المستمر منذ سنوات في سوريا إلى احتلال يستوجب الإدانة والشجب والاستنكار. ربما يكمن السر في الجغرافيا، فالجيش التركي غرب نهر الفرات ضمانة لوقف القتال والسلام، وفي شرق الفرات يصبح عدوانا واحتلالاً وتعدياً على حقوق الإنسان والسيادة السورية.
لعل المستضيف على ضفتي الفرات هو من يحدد ماهية الحضور التركي بين صديق وعدو. غرب الفرات هناك فصائل المعارضة وجبهة النصرة اللتان تأتمران بأمر الأتراك وتخوضان إلى جانب الجيش التركي جميع معاركه. وعلى الضفة المقابلة تسيطر القوات الكردية التي تعتبر دولة رجب طيب أردوغان عدوتها، وتشكل الذراع العسكرية للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب شرق سوريا.
وفق هذا المعيار يمكن، ببساطة، الجزم بتأييد فصائل المعارضة وجبهة النصرة وجميع القوى السياسية التي تعيش في كنف أردوغان، لعملية نبع السلام التركية. هؤلاء جميعاً لا يكرهون وحدات حماية الشعب الكردية كرمى لعيون أنقرة فقط، وإنما لأنها استغلت الأزمة السورية من أجل أن تعيد صياغة الواقع الديمغرافي والسياسي في مناطق الشمال، وتحول شرق الفرات إلى روجافا (غرب كردستان).
في معيار الولاء لتركيا أيضا يُفهمُ التأييد القطري العلني لعملية نبع السلام، خاصة وأن الدوحة لا تزال، حتى هذه اللحظة، تدعم فصائل المعارضة وجبهة النصرة اللتين تكنان العداء للقوات الكردية. كذلك يمكن فهم التأييد غير العلني من قِبل روسيا وإيران للعدوان، مع مراعاة اختلاف أسباب رفض الدولتين لسيطرة القوات الكردية على مدن ومناطق الجزيرة السورية تحت الحماية الأميركية.
ترفض إيران قيام كيان كردي مستقل في سوريا على غرار العراق. حالها في هذا حال الأتراك والحكومة السورية والكثير من الدول العربية والغربية. بالإضافة إلى أن طهران تكره وجود ذراع عسكرية أميركية في دولة تريد الهيمنة عليها من الجهات الأربعة. أما بالنسبة إلى الروس فهم يريدون تفتيت الحلم الكردي بدولة مستقلة أيضا ويرغبون في رؤية الأكراد نادمين على عدم إبرامهم اتفاق مصالحة مع دمشق، يعودون من خلاله إلى “حضن الدولة السورية الدافئ”.
ثمة مصلحة أخرى للروس والإيرانيين في تأييد العملية التركية، وهي تتمثل باسترضاء الضامن الثالث لمفاوضات أستانة. الشريك الذي لطالما تكرم على طهران وموسكو بانتصارات ميدانية جعلت دمشق تستعيد السيطرة على خمسة وستين بالمئة من مساحة البلاد، بعدما كانت المعارضة تقف على أبواب القصر الجمهوري.
رفض أكراد الشمال المصالحة مع الحكومة السورية إلا تحت شرط الاعتراف بإدارتهم الذاتية، جعل دمشق تفرح للتوغل التركي رغم كل هذا التنديد الذي تنضح به شاشات وصفحات الإعلام الموالي للحكومة. تخلت دمشق عن حرصها ودبلوماسية مفرداتها تجاه الأكراد منذ أن بدأ العدوان التركي، وباتت تصفهم بالخونة والانفصاليين وترفض ليس فقط محاورتهم، وإنما وجود موطئ قدم لهم في البلاد.
في مواقف التأييد المبطن للعدوان التركي لا بد من الوقوف أيضاً عند غضب الأوروبيين إزاء العملية التركية. ملأ الأوروبيون الدنيا صراخا خوفا من أن ينفجر نبع السلام تحت السجون التي تجمع دواعشهم فيعودون إليهم أو يعودون إلى بناء دولتهم المزعومة مرة أخرى، وعندما خُيّرُوا بين الخوف من الدواعش والخوف من اللاجئين، صمتوا وباتوا يطالبون أنقرة بإنهاء عدوانها على الشمال السوري بأسرع وقت ممكن.
أعقد المواقف من العدوان التركي على سوريا هو موقف الولايات المتحدة. بقي هذا الموقف يحتمل التأويل والتحليل بناء على تناقض تصريحات المؤسسات الأميركية بين حيادية ورافضة لهذا العدوان، حتى رفضت واشنطن وموسكو إدانة هذا العدوان في مجلس الأمن. ظل الجميع قبل انعقاد الجلسة يكابر في قبول حقيقة أن الأميركيين باعوا الأكراد للأتراك. ليس خيانة وإنما انتهاءً لمصلحة استمرت لنحو أربع سنوات، استفاد منها الطرفان بالحدود القصوى، وعندما توجب على الرئيس دونالد ترامب الاختيار بين الأتراك والأكراد، اختار أنقرة لمصلحةٍ أيضا وليس حبا برجب طيب أردوغان.
يعلم الأميركيون أن وحدات حماية الشعب الكردية تدعم حزب العمال الكردستاني. عاشوا بين أكراد الجزيرة وشاهدوا بأم أعينهم صور عبدالله أوجلان تُرفع فوق كل منطقة تحرر من داعش. عرفوا مكاتب تدريب الشبان والشابات الأكراد للالتحاق بمواقع الحزب العسكرية في جبال قنديل، وتلمسوا وصول أسلحة ودعم مادي من القامشلي لذلك الحزب المصنف على قوائم الإرهاب التركية. لم يعاقب الأميركيون الأكراد بانسحابهم من تل أبيض ورأس العين. ولكنهم، كما قال الرئيس دونالد ترامب، انسحبوا من حرب بدأت بين الأكراد والأتراك قبل مجيئهم وستستمر بعد رحيلهم.
ثمة من الأكراد السوريين أنفسهم من يقف ضد الحرب بين حزب الاتحاد الديمقراطي والدولة التركية، لذلك صنفوا من قبل الأسايش ووحدات حماية الشعب الكردية بالخونة ومنعوا من زيارة منازلهم ومناطقهم. لا يؤيد هؤلاء الحرب التركية على أبناء جلدتهم في القومية والوطن، وخاصة أن ضحاياها سيكونون من جيرانهم وأصدقائهم وعائلاتهم المدنيين، ولكنهم ضاقوا ذرعا باحتكار القضية الكردية من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية والأمنية.
في الرافضين للعدوان التركي طبعا لا بد من ذكر الجامعة العربية، فقد حصل شيء ما دفع بجرعة زائدة من العروبة في عروق المنظمة الميتة، فراحت تبكي دولة شقيقة تعرضت لعدوان سافر. تكاثرت بيانات الإدانة من الدول الأعضاء دون أن يتنبه أحد إلى أن الدولة المفجوعة في سيادتها، مجردة من عضوية الجامعة ولا يزال مقعدها فارغاً منذ أن حُكم على نظامها بقتل شعبه وسحبت منه الشرعية العربية.
لن يُصلح موقف الجامعة ما أفسده الدهر، ولن يعيد للنظام السوري شرعية خسرها من قبل شعبه. كما أنه لن يخيف تركيا ولن يجبرها على إعادة حساباتها في العدوان على سوريا حتى ولو عاد بشار الأسد ليجلس على مقعد دولته في الجامعة.
في تعداد الرافضين للعدوان التركي على سوريا أيضا لا بد من ذكر إسرائيل. حمامة السلام التي أعادت للسوريين الجولان المحتل، وتسهر ليل نهار على حماية الأجواء السورية من أي اختراقات لمقاتلات أجنبية. تتعاطف إسرائيل كثيراً مع حلم الدولة المؤجل عند الأكراد، ولا تدخر جهدا لحثهم على تحقيق هذا الحلم والتمسك به مهما طال الزمن.
جرد قوائم الرافضين والمؤيدين للعدوان التركي يجب أن ينتهي بفئة مستضعفة من السوريين لا حول لها ولا قوة، تخشى أن يتحول هذا العدوان إلى حرب أهلية عربية كردية لن تفيد بشيء إلا في إطالة أمد الأزمة التي أتت على البشر والحجر في البلاد. لا تقبل هذه الفئة أية مبررات للعدوان التركي مهما كانت محقة من وجهة نظر البعض، وهي تتمسك بقناعة مفادها أن الأزمة قادت الجميع إلى خيارات خاطئة في بعض المواقف، ولكن محاكمة أي فئة على هذا الخيار أو ذاك، لن تعيد الدولة السورية إلى الحياة وإنما ستعجل بموت وحدتها إلى الأبد.