من صور الابتلاء

العابدون في الأراضي الفلسطينية المحتلة يمرون بمرحلة ابتلاء مزدوج إذ لديهم سلطة ومستوطنون من أصوليي دين آخر.
الأحد 2022/01/23
تذكير وسائل الإعلام بواجبها

من موقع الموالاة، كتب أحد موظفي السلطة الفلسطينية المتقاعدين، تغريدة ينتقد فيها تجاهل قناة بلاده التلفزيونية الرسمية، وفاة اثنين من قادة أمن منظمة التحرير قبل تأسيس السلطة. فجاءت ردود الأفعال المسجلة في ذيل التغريدة، جامعة للطيف الوطني كله، ما يعني أن جميع من طالعوا السطور القصيرة، يُضمرون الموقف نفسه، وإن كان أكثرهم، يستنكف عن تسجيل آرائه، لتحاشي قلة عقل الرقيب السلطوي، الذي يتقصى التعليقات، ويبني عليها مواقف زجرية أو تدابير إقصائية.

القناة التي يقصدها صاحب التغريدة، تعكس مزاج “المحنك” رئيس السلطة، في الاستذكار والتجاهل، وفي التأسي والتغاضي. فالقائم على وسائل إعلامه، واحد من ضاربي الطبل، ولا علاقة له بالمهنة لا بالتأهيل ولا بالثقافة والخبرة. لذا ستكون أيّ وسيلة إعلام، شفافة في تظهير الأحوال الجوية لفخامة رجل في عقده التاسع.

في بدايات عهد “المحنك” كان بمقدورنا تذكير وسائل الإعلام بواجبها حيال الرجال الذين أعطوا أعمارهم للعمل الوطني، حتى عندما تتجاهله “المقاطعة”. وأذكر عندما توفي زميلنا المرحوم فؤاد البيطار، الذي تسلمت منه السفارة في رومانيا؛ تجاهلت وسائل الإعلام الفلسطينية خبر وفاته، وهو من مؤسسي شبكة السلك الدبلوماسي الفلسطيني، ومن أوائل السفراء في أفريقيا مع المرحوم شفيق الحوت. يومها، اتصلت بالتلفزيون وأرسلت صيغة النعي فظهر جزء منها على شريط الأنباء أسفل الشاشة، وبالطبع فتحنا له بيت عزاء. وعندما اشتد ساعد “المحنك” بقوة الأمن التي طلبها من بوش بحضور شارون، كما أسلفنا في تغريدة سابقة عن مذكرات الأخير؛ توفي عبدالله الحوراني، وكان صديقاً قديماً لفخامة الرجل غير الفخم، وكان عضواً سابقاً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في عز أيامها، ومديراً عاماً للثقافة في المنظمة أيام لم تكن هناك سلطة. وبسبب نقد المرحوم “أبومنيف” لصاحبه القديم، تجاهل الأخير وفاة الرجل القامة، الذي ترك بصماته في كل موقع شغله في حياته. عندئذٍ، تولت عائلة الحوراني إقامة بيت العزاء، ودفن الحوراني في مقبرة أردنية، ولم يؤتَ بجثمانه لكي يُسجّى في “المقاطعة” ويُشيّع منها.

الواحد منا، يستغرب استغراب بعض الإخوة عندما يتكرر هذا السلوك الذي تمتد من خلاله غريزة البغضاء، من فرسخ الحياة إلى فرسخ الموت.

عندما تكون الكراهية والمقت الشديدان، هما بوصلة إنسان من عامة الناس البسطاء؛ ينحصر الضرر في ارتداد سلوكه عليه. لكن الشخص الذي يتحمل مسؤوليات عامة؛ ينعكس سلوكه على رعاياه.

معلوم أن أفدح الابتلاءات، يقع عندما تؤول السلطة إلى حاكم مستبد، يكون في الأصل رعديداً. ولعل من أسوأ تداعيات الاستبداد وانعكاساتها شديدة الضرر، نمو التطرف وتفشي اليأس الذي يدفع الناشئة إلى الانتحار. فلم يكن مجتمع المسلمين عبر التاريخ، يعرف ظاهرة الانتحار، وإن كان هذا المجتمع نفسه، ظل يُنتج أسباب التقاتل لأبسط التعارضات الفقهية، ما جعل القتلى يموتون بشفاعة واجبات إيمانية مظنونة. علماً بأن الرسول الكريم عليه السلام، حث على الصبر وعلى تمسك المرء بما يعتقد، على الرغم من الابتلاء حين قال “الرجل يُبتلى على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة”!.

العابدون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمرون بمرحلة ابتلاء مزدوج، إذ لديهم سلطة ومستوطنون من أصوليي دين آخر، يساندهم جيش دولتهم، بينما “المحنك” الفلسطيني الذي يحكم بغريزته، يتمادى في العوار.

20