من "العرب" وإليها

دفعت إلى الطباعة، كتابي عن فن المقالة القصيرة وثقافتها. وكان من المحاسن النادرة للكورونا، أن دنيا النشر ومعارض الكتب قد تعطلت، فأتاحت لي زيادة قسمها الثاني، الذي وضعت فيه نماذج من أعمدة “صباح العرب”، التي نُشرت في صحيفة “العرب” الغرّاء. وعرفانا بفضل هذه الصحيفة، طلبت من مصمم الغلاف، تظهير “ترويسة” الجريدة، بلونها الأحمر، ورابط موقعها الإلكتروني.
في الحقيقة، أردت من خلال الكتاب، تقديم إسهام متواضع، لقارئ محدد بالدرجة الأولى، وهو الراغب في أن يسجل خواطره وأن يكتب، أو ذلك الذي يطمح لأن يكون كاتبا مقروءا. ويمكن لمن يريد الاطلاع، أن يتعرف من خلال الصفحات، على وجهات نظر، بعيدا عن صلب السياسة، أو يلامسها من بعيد، في بعض الفقرات. فالتركيز هنا، حول فن المقالة، من حيث كونها نصّا له شروطه المعرفية واللغوية والجمالية. وليس خافيا أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت ترافق حياة الناس وتنقل خلجات قلوبهم؛ قد جعلت الملايين الكثيرة، في الوطن العربي، تميل إلى الكتابة بغير حبر ولا ورق، وبمحض أقلام ضوئية تَرسم حروفها على الشاشات، بغير إجهاد، وتتحاشى الرقيب وتتناسى المحاذير. غير أن القلم، بمعناه الموضوعي، منذ أن كان قصبة خشبية أو ريشة طائر، مرورا بكل ما مر على صناعة الأقلام المعبأة بالحبر السائل، أو الحبر الجاف؛ ظل هو القلم نفسه، الموصول بعقل من يحمله، ولم يغير اسمه، حتى عندما أصبح قلما ضوئيا.
وبالطبع، لا يمكن لأي تطور تقني، أن يُغني عن القلم في أشكاله القديمة والجديدة. فما وراء كل قلم، إنسان، له آراؤه وخياراته في ما يكتب، وما نحن معنيون به، هو جودة الصياغة وترقية الذوق اللغوي، ترفعا عن الإسفاف والركاكة. ففي البدء، كانت الكلمة وكان النص، ومن أراد أن يكتب، فإن الكتابة متاحة لكل مُريد.
لكنني في ما سيُنشر بين دفتي كتاب، اخترت أن أبتعد عن الخوض في السياسة، علما بأنني كاتب سياسي، كنت أثناء مزاولتي الكتابة السياسية اليومية، في صحف عربية، أحرك قلمي لكي يصل إلى عدد من الكلمات لا يقل عن مئتي ألف سنويا، النذر اليسير جدا منها، اقتباسات جد قصيرة. ولعله شرف لا أدعيه وإن كنت أحس به، أنني ظللت لأكثر من أربعين سنة، ممسكا بقلمي لا أطرحه، وأرقم به على الورق وعلى الشاشات. لكنني طوال الوقت، كنت أتبنى موقفا نابعا من القلب والعقل، وهو أن الكاتب الذي لا يتمنى أن يولد في كل يوم، في الوطن العربي، قلم جديد وكاتب جديد يُحسن الصنعة، ويفرح لظهور قلم وكاتب جديدين؛ لا يستحق أن يكون كاتبا مقروءا. وربما تفيد الإشارة، إلى أنني كنت أستمتع بصياغات كُتّاب يخالفونني الرأي، ويرجح عندي تقدير الجودة في نصوصهم، والرغبة في امتداحها، على الرغم من مساحة الخلاف حتى ولو كانت شاسعة.
من هنا، نشأت فكرة الكتاب الذي يتعلق حصرا بعنصر الجودة. ففيه أعرض بضاعتي، وهي من فصلين أو جزأين: الأول، مخصص لما أريد قوله عن شروط صياغة المقالة الصحافية، والثاني عبارة عن نماذج من المقالات القصيرة التي نُشرت في شكل أعمدة، في يسار الصفحة الأخيرة من جريدة “العرب” الدولية الصادرة من لندن. ففي هذه المقالات، عرضت بضاعة من إنتاجي، لعل الراغبين في احتذائها يتأملونها، ليس من حيث كونها ذات موضوعات متنوعة وحسب؛ وإنما أيضا من حيث هي تمثل منهجية عصرية في الكتابة!
وكان الفصل الأول، مخصصا للحديث عن أنواع المقالة، وتطرقت إلى شروطها اللغوية الجمالية، كمن يخاطب الطامحين إلى ممارسة الكتابة المنتظمة والتزام تقاليدها على مستوى السلوك اليومي في الحياة!