من "الأيادي النظيفة" إلى "من أين لك هذا".. الجزائر تبحث عن مخرج من مستنقع الفساد

الجزائر - أعاد إعلان السلطة الجزائرية عن إطلاق هيئة جديدة لمحاربة الثراء غير المشروع لدى الموظفين الحكوميين، سيناريو عملية “الأيادي النظيفة” التي أطلقت في تسعينات القرن الماضي بغية محاربة الفساد، والتي أدت حينها إلى سجن وتسريح المئات من الكوادر الحكومية، اتضح في ما بعد أن الكثير منهم كانوا ضحايا لتقارير كيدية.
وأعلن مجلس الوزراء الأخير المنعقد تحت إشراف الرئيس عبدالمجيد تبون عن إطلاق هيئة “من أين لك هذا”، التي ستضطلع بمهام التحقيق في الثراء الفاحش لدى الموظفين الحكوميين والمنتخبين، بدءا من أعلى مؤسسة في الدولة إلى غاية أبسط مؤسسة.
وتندرج العملية في إطار تنفيذ التعهدات الانتخابية التي أطلقها تبون خلال حملته الانتخابية، من أجل محاربة الفساد المستشري داخل مفاصل ومؤسسات الدولة، حيث تحولت مناصب المسؤولية مصدرا للثراء والتربح على حساب مصالح الخدمة العمومية.
وأفاد بيان الرئاسة الجزائرية بأن “اجتماعا لمجلس الوزراء تناول مشروعي قانونين يتعلقان بالوقاية من الفساد وكيفيات ممارسة الحق النقابي، وعروضا بخصوص تنظيم السلطة الوطنية العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته وتشكيلتها وصلاحياتها”.
وحض الرئيس تبون، في هذا الشأن، على ضرورة “التركيز على العمل الوقائي لمحاربة الفساد، بدءا من تحديد شروط جديدة ودقيقة للإعلان عن الصفقات والمناقصات على الصحف، واستحداث هيئة جديدة للتحري في مظاهر الثراء عند الموظفين العموميين بلا استثناء من خلال إجراءات قانونية صارمة لمحاربة الفساد، عملا بمبدأ (من أين لك هذا)”.
مخاوف من تكرار تقارير كيدية وقعت في تسعينات القرن الماضي في حق العشرات من الكوادر الحكومية
وفي سياق آخر يتصل بمصير ووضع الممتلكات والعقارات المملوكة لرجال أعمال محبوسين، والمحجوزة من طرف القضاء، أمر الرئيس الجزائري حكومته بتسريع عملية الجرد النهائية لمختلف الممتلكات المحجوزة، ووضعها تحت سلطة الدولة، وإدماجها في عجلة الإنتاج الوطني، قبل نهاية الثلاثي الأول لعام 2022.
كما حض وزير الصناعة على متابعة وجرد المصانع التي تُسوّى وضعيتُها القانونية، وإحصاء مناصب الشغل، المستحدثة، بموجب التسوية، وقيمتها المالية، بالعملة الوطنية والصعبة وعرضها دوريا في كل مجلس وزراء، فضلا عن بعث العديد من المصانع ورفع العراقيل البيروقراطية عن مختلف المشاريع والاستثمارات التي ستساهم في إعطاء دفع قوي للنمو الاقتصادي.
وتعاني الجزائر من فساد كبير استشرى بشكل لافت خلال العقدين الأخيرين، بحسب تقارير لمنظمات مختصة على غرار “شفافية دولية”، التي صنفتها من ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، الأمر الذي كبدها فقدان مقدرات مالية ضخمة مازالت في حكم المجهول، رغم سعي السلطة الجديدة لاستعادة ما يعرف بـ”الأموال المهربة”.
كما يتواجد العديد من رجال المال والأعمال ووزراء ومسؤولين كبار الدولة رهن الحبس، بسبب ضلوعهم في ملفات فساد وتبديد المال العام، وهو ما شكل منعرجا محوريا في خطاب التغيير الذي تروجه، بعدما كان هؤلاء يحظون بحماية نظام الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.
غير أن سيناريو حملة “الأيادي النظيفة”، التي أطلقها رئيس الوزراء السابق حينها والمسجون حاليا أحمد أويحيى، زجت بالمئات من الكوادر الحكومية في السجون، ليتضح في ما بعد أن الكثير منهم كانوا ضحايا لتقارير كيدية وتصفية حسابات شخصية، عاد بقوة الآن بعد إطلاق عملية “من أين لك هذا”، خشية تكرار نفس التجاوزات والمظالم.

وكان تبون قد قدم ضمانات للمسؤولين المحليين والمنتخبين برفع ضغط الرقابة من الفساد بغية السماح لهم باستعادة المبادرة ودفع التنمية والمشروعات المحلية إلى الأمام، ووضع ذلك آلية عمودية تكفل لهؤلاء عدم متابعتهم إلا بقرار يصدر من السلطات العليا للبلاد عكس ما كان سابقا.
كما استعان بهيئة “وساطة الجمهورية” المستحدثة لأجل رفع العراقيل البيروقراطية ومحاربة الفساد، خاصة أمام المستثمرين وأصحاب المشروعات المعطلة، حيث حض هؤلاء على اللجوء إلى الهيئة في حال اصطدامهم بممارسات فساد أو بيروقراطية.
وفيما ساد الإجماع في الجزائر حول الخطوة المتخذة من طرف السلطة لوضع حد لتغول الإدارة والفساد والبيروقراطية، فإن المخاوف بعثت مجددا بسبب عدم وضوح آليات عمل اللجنة وصلاحياتها ودور الضبطية القضائية، لتفادي تكرار ما وقع في تسعينات القرن الماضي من إجحاف في حق العشرات من الكوادر الحكومية.
وتتضمن التشريعات الجزائرية نصوصا صريحة تلزم الموظفين الكبار في الدولة والمنتخبين في المجالس الوطنية بالتصريح بممتلكاتهم عند الالتحاق بالمهمة وبعد الانتهاء منها، غير أن غياب الرقابة والمتابعة جعل الإجراء يأخذ طابعا شكليا لا طائل من ورائه.
ومازالت المؤسسات المكلفة بمحاربة الفساد، على غرار مجلس المحاسبة والمرصد الوطني لمحاربة الفساد، عبارة عن هيئات غير إلزامية تكتفي بتقديم تقارير سنوية للسلطات العليا عن حصيلة عملها، بينما لم تتم معاقبة أي مسؤول أو مؤسسة ضلعت في ممارسات فساد، بحسب مضمون تلك التقارير التي تكشف دوريا عن تسجيل خروقات وتجاوزات كبيرة في حق المال العام.