من أوباما إلى بلينكن.. الولايات المتحدة لم تتعلّم شيئا

لندن- لم تثبت الولايات المتحدة أنها تعلمت شيئا مما تغير في العالم خلال العقدين الماضيين. الخطاب ظل هو نفسه، ولو تغيرت بعض أشكاله، من جورج بوش إلى باراك أوباما، ومن هذا الأخير إلى أنتوني بلينكن.
جاء الأميركيون بغزوهم لأفغانستان والعراق بين عامي 2001 و2003، ليقدموا صورة لقوة عظمى منتصرة، قادرة على أن تفعل كل ما تشاء، وأن تدمر مجتمعات بأسرها، وأن تعيد بناءها وفقا لتصورات مسبقة، لا علاقة لها بطبيعة تلك المجتمعات أو ثقافتها أو تاريخها. وذلك في تجسيد انتقامي، ليس لأحداث 11 سبتمبر في العام 2001، وإنما لتسوية حساب حضاري ضد الإسلام والمسلمين.
وعندما اتضح أن “تسوية الحساب” هذه انقلبت وبالا على الولايات المتحدة، بالمقاومة الضارية التي شنها الأفغان والعراقيون، كلٌ وفقا لمعاييره الخاصة، فقد آثرت الولايات المتحدة البحث عن مخارج من الورطة، ولكن من أن تتخلى عن الترهيب والعجرفة والموقف المتعالي على الحقائق الاجتماعية والسياسية التي لم تؤخذ بنظر الاعتبار أصلا.
◙ مثلما ظلت واشنطن تطارد هزيمتها في العراق، فقد انسحبت بذيول الهزيمة نفسها من أفغانستان
صنعت واشنطن خرابا في هذين البلدين بالقوة الغاشمة. ثم بالقوة الغاشمة نفسها أنشأت نظامين سياسيين لم يجسدا شيئا أكثر من نزعة الغطرسة وسوء الفهم. ومثلما ظلت الولايات المتحدة تطارد هزيمتها الخاصة في العراق، فقد انسحبت بذيول الهزيمة نفسها من أفغانستان، تاركة خلفها ما يزيد عن 10 آلاف قتيل و100 ألف جريح، وخسائر بلغت نحو 4 تريليونات دولار، كانت تكفي لإعادة بناء العالم، إلا أنها لم تبن حجرا ثابتا واحدا على حجر آخر في هذين البلدين معا.
باراك أوباما ذهب إلى القاهرة في العام 2009 لكي يدلي بخطاب متعجرف، حاول خلاله أن يُظهر تفهّما أفضل للعلاقة مع العالم الإسلامي، ولكن من دون أن يقدم أدلة حقيقية على تغيير جوهري في السياسة الأميركية حيال قضايا المنطقة. قال إنه يفهم الإسلام، أفضل مما يفهمه المتطرفون، وإنه يريد علاقات شراكة حقيقية مع الدول الإسلامية، إلا أنه لم يخرج عن النص المألوف للسياسات الأميركية العاجزة حيال إسرائيل، ورفضها الامتثال لمتطلبات السلام.
كما لم يخرج عن النص المتعالي المألوف المتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق المرأة. وهي الأدوات التي لطالما استخدمها الغرب لتجسيد خطاب الغطرسة، ولتبرير التدخلات في الشؤون الداخلية للدول التي تقع ضحية لهذه المفاهيم، بقوالبها الغربية.
لقد كان واحدا من أول ما سمعه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته إلى بريتوريا، مستهل جولته الأفريقية، من نظيرته الجنوب أفريقية، ناليدي باندور، أن بلادها سئمت من خطابات “الترهيب المتعجرف” التي تسمعها من بعض الدول، الأوروبية خاصة، بشأن موقفها من الصراع في أوكرانيا.
وقف بلينكن في جامعة بريتوريا ليلقي خطابا حاول أن يكرر صورة الخطاب الذي قدمه أوباما في جامعة القاهرة. قال إن بلاده تريد “شراكة حقيقية” مع القارة الأفريقية، وأنها لا ترغب في “تجاوز” نفوذ القوى العالمية الأخرى فيها، وإنها لا تريد علاقة غير متوازنة، وإن “الولايات المتحدة لن تملي على أفريقيا خياراتها ولا ينبغي لأي شخص آخر أن يقوم بذلك”، وإن “حق اتخاذ هذه الخيارات يعود إلى الأفارقة وحدهم”.
بلينكن قدم في الوقت نفسه وثيقة سياسية توحي برغبة واشنطن في إجراء “إصلاح شامل” لسياستها في أفريقيا جنوب الصحراء، ولكنها ظلت تقصد مواجهة الوجود الروسي والصيني و”تطوير أساليب غير عسكرية ضد الإرهاب”. وذلك على الرغم من تأكيده أن “واشنطن لا ترى المنطقة على أنها آخر مكان للمنافسة بين القوى العظمى”، وأن “هذه ليست الطريقة التي نرى بها الأشياء بشكل أساسي. هذه ليست الطريقة التي سنعمل بها على تعزيز التزامنا هنا”.
ولكن ما الذي تغيّر خلال العشرين عاما الماضية؟
الصين تحولت إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، ونجحت في التوسع اقتصاديا في جميع المناطق التي أهملتها الولايات المتحدة وأوروبا، ومنها دول القارة الأفريقية التي بقيت ترزح تحت نير الفقر.
الصين، على امتداد هذين العقدين، ظلت تستثمر بين 2 و3 مليارات دولار سنويا في أفقر الدول الأفريقية. وبحسب التقرير السنوي حول العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية الأفريقية للعام الماضي، فقد بلغ الاستثمار الصيني في أفريقيا 2.96 مليار دولار في عام 2020، بنسبة زيادة 9.5 في المئة على أساس سنوي. حدث ذلك من دون ضغوط ولا مطالب أيديولوجية، ولا خطابات متعجرفة. المنطلق كما وصفه زهو وينجونغ نائب وزير الخارجية الصيني هو أن “العمل عمل، إننا نحاول فصل السياسة عن العمل”.
وفضلا عن القروض الميسرة، فإن الاستثمارات الصينية لا تنطوي على تحويلات مالية تتسرب من خلال مجاري الفساد. فالقاعدة العامة هي أن توضع الاستثمارات في صناديق خاصة، ثم يتم تحويلها إلى الشركات الصينية التي تقوم بتنفيذ المشاريع، بأقل التكاليف الممكنة، تحت إشراف الدولة المعنية، لتحصل على موانئ وطرق ومستشفيات ومدارس. وفي الغالب فإن عائدات التشغيل، هي ما يسدد تلك القروض.
تنمية ليست مجانية اقتصاديا، ولكنها مجانية سياسيا. ولا تنطوي على افتراضات ثقافية مسبقة، أو مطالب استراتيجية من أي نوع. وسواء حدثت انقلابات عسكرية أم لم تحدث، فإن مشاريع العمل تبقى مشاريع عمل.
قبل عقدين من الزمن، أنشأت الصين “منتدى التعاون الصيني – الأفريقي” لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية بينها وبين البلدان الأفريقية في القطاعين العمومي والخاص. ويضم في عضويته الآن أكثر من 45 دولة أفريقية. وبينما كانت التجارة بين الصين وأفريقيا تبلغ 10.6 مليارات دولار في عام 2000 فقد قفزت إلى 160 مليار دولار في عام 2011، ثم قفزت مرة أخرى إلى 187 مليار دولار في عام 2020، ثم تجاوزت 220 مليار دولار في نهاية العام 2021.
هذه الاستثمارات، المجانية سياسيا وثقافيا، هي التي صنعت الموقف الأفريقي المحايد من الغزو الروسي لأوكرانيا. الفكرة الأساس هي أن نزاعات الكبار تخصهم، ولا يفترض بها أن تزيد في أعباء الفقر على الدول الأفريقية. الوجه الآخر للفكرة يقول: مرحبا، بكل من يمد لنا يد العون، من دون شروط مسبقة لخدمة مصالحه هو.
جنوب أفريقيا نفسها، وهي الدولة الأكبر اقتصاديا في القارة، عضو مؤسس في مجموعة بريكس التي تضم الصين وروسيا والبرازيل، وغيرها. وهي مجموعة تؤسس لتجارة بينية قائمة على فكرة “العمل، عمل”، من دون تدخلات سياسية.
◙ بلينكن قدم وثيقة سياسية توحي برغبة واشنطن في إجراء "إصلاح شامل" لسياستها في أفريقيا جنوب الصحراء
“الشراكة الحقيقية” التي عرضها أوباما في العام 2014 على العالم الإسلامي، لم تثمر شيئا من الناحية الفعلية. إسرائيل لا تزال ترفض الامتثال لشروط السلام، وأدت السياسات التي انتهجها إدارته إلى تسليم العراق لإيران، ربما لأنه صار يفهم الإسلام الشيعي أكثر من غيره، ووقعت إدارته اتفاقا نوويا مع طهران، من دون أن تتشاور مع حلفائها في المنطقة، وغفلت عن المخاطر التي تشكلها الجماعات الإرهابية التي تدعمها إيران في العراق، كما غفلت عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، بعد أن كانت شريكا مباشرا في ارتكابها، ولم تلحظ أبدا، إلى يومنا هذا، أن تلك الانتهاكات، بكل ما انطوت عليه من أعمال تهجير وترويع وقتل، كانت هي السبب الذي أدى إلى ظهور تنظيم داعش.
لم تقدم إدارة أوباما للمنطقة إلا الخطاب المتعجرف نفسه الذي حاول بلينكن أن يتحاشاه ظاهريا. ولكن وثيقته السياسية التي رافقت هذا الخطاب، قدمت دليلا كافيا على أن الولايات المتحدة لم تفهم شيئا من دروس العشرين عاما الماضية. وظلت ترغب ببيع تصورات مسبقة عن شكل العالم الذي تراه مناسبا، والذي يمكنها أن تتعاون معه.
العالم تغيّر. ودوله أصبحت أكثر استقلالا، وأكثر عزيمة على النظر إلى مصالحها الخاصة، من منطلقاتها الثقافية والسياسية الخاصة. ولم تعد بحاجة للعمل من أجل تنمية هذه المصالح، إلى نصائح أخلاقية.
لا تعلّم الفقير كيف يجلس ليأكل. دعه يأكل أولا.