منيرة موصلي الفنانة السعودية التي صنعت نبوءتها الفنية

لقب رائدة فنية لا يفيها حقها تماما. فهي كانت منذ نعومة أظفارها ناشطة في مجالات سياسية وثقافية واجتماعية. لم تكن ممارسة الفن بالنسبة لها سوى الواجهة التي تتخفى وراءها شخصيتها ذات الأوجه العديدة.
تبدو منيرة موصلي كما لو أنها تلجأ إلى الاختلاف بحثا عن الإثارة والاستفزاز غير أن الأمر ليس كذلك بالتأكيد. هذه امرأة مختلفة في كل شيء. فهي صاحبة قضية. لو قلنا إن تلك القضية كانت نسوية، بمعنى الدفاع عن حقوق المرأة وحدها بالدرجة الأساس لما كنا منصفين. فمنيرة في حياتها كما في فنها وضعت الإنسان هدفا مقدسا لها والإنسانية معيارا لسلوكها الثقافي.
موصلي ليست ظاهرة فنية فحسب، بل ظاهرة إنسانية هي أشبه بالنبوءة لما يشهده بلدها السعودية من تحولات الآن. لقد سبقت زمنها.
بالنسبة لي فلأن صورتها المتخيلة تسبق الكائن الواقعي الذي أعرفه جيدا فإن ذلك الكائن يكاد أن يُمحى بسبب سطوة الفن.
من الحجاز إلى العالم
موصلي هي طراز خاص من الفنانين الذين لا يمكن الفصل بينهم وبين فنهم. كل ما فعلته في حياتها يمكن اعتباره جزءا من الممارسة الفنية. بالرغم من أنها وهبت القضايا السياسية والاجتماعية قدرا لافتا من وقتها، غير أنها لم تتخل عن مزاج الفنانة التي تسكنها.
كل ذلك الصخب الخارجي يقابله سكون داخلي هو أقرب إلى الصمت المتأمل.
الفتاة الحجازية التي درست أبجديات الثورة في شوارع العالم الغاضبة كانت في الوقت نفسه تتأمل الأيقونات الفنية في المتاحف بخشوع. لم تكن الحقيقة لتكتمل إلا من خلال وجهيها المتناقضين. وإذا ما كانت موصلي قد عاشت جزءا من حياتها غريبة في بلاد الآخرين فإن غربتها لم تكن أقل وسط ناسها الذين لم يفهموا نهمها الثوري لالتهام الحياة وإعادة إنتاجها.
وهو ما ألقى بظلاله على مشروعها الفني القائم أصلا على فكرة “العودة إلى البيت” وهي فكرة مجازية، يغلب عليها مزاج شاعري، يتحرك بخفة بين الماضي والحاضر، ليعثر على مدركاته الشكلية على هيأة رموز شاخصة، مثل بدوي يرسم طريقا على الرمل.
ولدت موصلي عام 1954 بمكة المكرمة. بدأت رحلتها إلى خارج المملكة مبكرا حين درست في مدارس لبنانية ثم انتقلت إلى القاهرة لإكمال دراستها الجامعية حيث تخرجت من كلية الفنون عام 1974. بعدها واصلت دراستها الفنية في الولايات المتحدة حتى عام 1979. حين عودتها إلى بلدها عملت في شركة أرامكو لتقيم بعدها في البحرين فنانة متفرغة.
ريادتها الفنية يمكن توثيقها من خلال وقائع عديدة. من أبرز تلك الوقائع معرضها المشترك مع زميلتها الفنانة صفية بن زقر الذي أقيم في مدرسة التربية الحديثة عام 1968. كما أنها أقامت معرضها الشخصي الأول في جدة عام 1973 وحين أقامت في الولايات المتحدة عرضت أعمالها في معرض مشترك عام 1976، وذلك بولاية كاليفورنيا.
عام 1994 اختيرت الموصلي للعمل أخصائية فنية في برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية.
الواسطي الذي يُذكر بها
على مستوى المعارض الشخصية يمكن النظر إلى معرضها “الواسطي وأنا” باعتباره البداية الحقيقية لظهور أسلوبها الفني بكل ما انطوى عليه ذلك الأسلوب من طريقة خاصة في التعامل مع الفن والتفكير فيه ومن خلاله. أقيم ذلك المعرض عام 1997 في صالة “عالم الفنون” ببيروت.
ولقد أشاد الكثيرون بجرأة الفنانة التي قادتها إلى استعمال مواد مختلفة، منها الورق المصنع يدويا والأصباغ الطبيعية والنحاس وليف أشجار النخيل والخشب وورق البردي والمحار والنباتات، كما أنها لجأت إلى تقنية اللصق “كولاج”، وأدخلت إلى أعمالها نوافذ خشبية قديمة هي جزء من الخامات الشعبية التي رغبت من خلالها في صنع عالم هو مزيج من الواقع والخيال.
صحيح أن موصلي استلهمت في ذلك المعرض رسوم الواسطي غير أنها في الوقت نفسه حاولت أن تطرح فكرة الاستمرارية التي تعتمد أصلا على النظر إلى المنجز الجمالي التراثي بعيون معاصرة. وهو ما جعلها تقوى على كسر حدود الوهم التي يقيم وراءها الرسم لتنتج أعمالا فنية يمتزج النحت فيها بالرسم، لتوحي بعدم انقطاع الفيض الجمالي الذي بدأ برسوم العراقي يحيى الواسطي لينتهي بالصناعات الشعبية اليدوية التي تستند أصلا إلى نظام زخرفي مكرس.
“الصبية تضيء ليلك يا عراق”. ذلك هو عنوان معرضها الذي أقامته في قاعة “البارح” بالبحرين عام 2011. وهو كما أرى واحدة من أهم المحطات في مسيرة الفنانة. لسنوات عملت موصلي على تجهيز أعمال ذلك المعرض التي عادت من خلاله إلى السياسة رافعة يدها احتجاجا على احتلال العراق وما تبعه من جرائم ضد الإنسانية. وبالرغم من الوجع المباشر فإن الفنانة حرصت على أن تتعامل مع الوقائع التي هي مصدر إلهامها بأسلوب فني رفيع، غلب عليه الطابع الاستفهامي المدافع عن الجمال في مواجهة القبح.
حياة على سلالم اللون
“على سلالم اللون هناك آثار لخطواتي” هو عنوان المعرض الاستعادي الذي أقامته الفنانة موصلي بقاعة “حافظ” بجدة عام 2016. سبعة وخمسون عملا تعود إلى ما بين سنتي 1968 و2015 قدمتها الفنانة في ذلك المعرض هي بمثابة سجل لتطور وعيها الجمالي. ذلك الوعي المتشعب الذي يكشف عن طريقة خاصة في التعامل مع المسائل الفنية كما مع أسئلة الحياة، وبالأخص في جانبها السياسي.
الفنانة التي نشأت على فكر متمرد نظرت إلى الفن باعتباره مرآة لحياتها التي تميزت بالاختلاف. لذلك فإن فنها الذي يشبهها إنما يعود بنا إلى المراحل التي عاشتها وهي تتأمل العالم بغضب. ذلك أنه كان غضبا جميلا لما انطوى عليه من رغبة في التغيير في اتجاه عالم أفضل.
لم تكن منيرة منذ بداياتها مقتنعة بأن الرسم بشروطه التقليدية يمكن أن يغير الحياة.
لذلك لم تشأ أن يكون فنها مجرد وسيلة للراحة البصرية أو التسلية المؤقتة. دفعتها رغبتها في أن يكون فنها صادما إلى المزج بين ما يمكن أن يُرسم وبين ما يُمكن استعارته مباشرة من الواقع، لتحقق هدفها الذي لا يقل عن دفع المتلقي إلى تذكر شيء ما من حياته.
بسبب ميولها السياسية ذات الطابع الإنساني فقد حرصت الفنانة على أن تكون حاضرة في المناسبات التي تدعم حق الإنسان في البقاء والعيش الكريم. فهي فنانة وهبت فنها وحياتها للقضايا الإنسانية الكبرى. غير أن ذلك الجانب من حياتها وهو جانب مؤثر في فنها لا يشكل سببا رئيسا لأهميتها في التاريخ الفني السعودي الحديث.
إضافة إلى ريادتها فإن موصلي فتحت الباب على تقنيات فنية، ما كان من الممكن التعرف عليها إلا من خلال معالجاتها المحلية، وهو ما فعلته عن عمد، مدفوعة برغبة عميقة في أن يكون لأثر مرورها على السلالم إيقاع، يذكر بها وبمحاولتها الفنية.
لقد تعلمت الفنانة أثناء إقامتها في الولايات المتحدة أشياء كثيرة، حاولت أن تقدمها لكن من خلال طابع، يستجيب لطريقتها الخاصة في النظر إلى ثقافة ومزاج مجتمعها الجمالي.
ابنة الحجاز المتمرد أضافت من خلال فنها مَعلما، يشير إلى عمق الوعي الجمالي الذي تنطوي عليه الممارسة الفنية في مجتمعها. لذلك يمكنني القول إن فن منيرة موصلي ينطوي على الكثير من الحث والتحريض على البحث في طبقات ذلك الوعي الجمالي من أجل العثور على نفائسه.