منى باسيلي صحناوي ترسم لبنان الذي يمكن استعادته

كانت هناك حياة في المنمنمات تأسر العالم كله بين جناحيها.
الأحد 2022/05/08
النص الذي تكتبه صحناوي ضروري لفهم العالم الذي ترسمه

الحرب، كل حرب لا تنتهي. لا أقصد استمرار تداعياتها فحسب بل وأيضا ما تتركه من شروخ ستظل تمارس تأثيرها على أجيال قادمة وإن كان ذلك التأثير يعبر عن عصفه بطرق مختلفة. يعود البعض إلى وقائع تلك الحرب ليصفها في محاولة لاستدراج الألم فيما يلتفت البعض الآخر إلى الحكايات والأساطير والرموز والإشارات والأيقونات والرسوم الشعبية الضاحكة في محاولة للكشف عن الثوابت البشرية التي تمثل سلسلة القواعد التي يتوجه الإنسان من خلالها إلى ممارسة العنف. اللبنانية منى باسيلي صحناوي تنتمي إلى النوع الثاني.

ترسم صحناوي كما لو أن الحرب لم تمر بها، كما لو أنها تلتفت إلى جهة أخرى، كما لو أنها تمارس النسيان عن قصد. غير أن كل ذلك ليس صحيحا. تقول “غالبا ما أضع إشارات لما حدث خلال تلك السنوات في لوحاتي، لاسيما أن الناس لا ينسونها ويصنعون الأخطاء نفسها”. النص الذي تكتبه صحناوي ضروري لفهم العالم الذي ترسمه والذي يبدو بسيطا بالرغم من تعقيده واحتوائه على طبقات من الأضداد التي تذكّر بالزمن.

إعلانها عن الجذور العربية لا يعني بالضرورة نوعا من التفكير في العودة إلى ما يُسمى بالفن العربي الإسلامي؛ فهي تعالج قواعد هويتها الوطنية من منظور سياسي معاصر

تتعامل صحناوي مع أشياء مرئية لكن بقوة ما لا يُرى منها. تلك معادلة سيكون من الصعب الوصول من خلالها إلى خيال الواقع. ذلك لأنها تمزج بين الحقيقة وظلالها كما في الحكايات. وهنا يحضر الطابع الرمزي الذي سعت الفنانة إلى التستر عليه.

رياضيات مضادة

تنطوي تجربة صحناوي على موقف مضاد لطريقة التفكير الغربي في الفن. فهي تسعى لإنشاء فضاء تخترق من خلاله الزمن من أجل استعادة تقنيات تقع على النقيض من التقنيات التي اتبعها رسامو الانطباعية في معالجة المشاهد الطبيعية. وهي بذلك أخرجت معادلاتها من نطاق الرياضيات الغربية.

لم تكن فكرة استعادة التقاليد العربية الإسلامية في الرسم هي السند الذي اعتمدت عليه الفنانة بقدر ما حاولت أن تضع الأساطير الفينيقية والرموز البيزنطية والمنمنمات الفارسية والطيور من الرسوم الجدارية القديمة والخط العربي في سياق يضطر المرء معه إلى التفكير في الفن باعتباره لقية قادمة من زمن مستعاد. 

فإلى أي زمن تنتمي الحرب التي ترفضها العين؟ الزمن الحاضر أم الماضي أم خيالهما؟ وإلا كيف يتم طي صفحاتها لكي يوضع الجمال في محله؟

ولدت عام 1945 في الاسكندرية قريبا من البيت الذي سكنه الشاعر اليوناني قسطنطين كفافييس. وبدأت دراسة الفن في الاكاديمية الإيطالية ثم انتقلت إلى الجامعة الأميركية ببيروت ومن بعدها إلى جامعة أريزونا بتكسون.

في سبعينات القرن الماضي ترأست صحناوي قسم الفنون التصويرية في وزارة السياحة اللبنانية. يومها كانت مهتمة بتصميم الطوابع والأغلفة والملصقات والرسوم التوضيحية للكتب. بعدها قامت بالتدريس في عدد من الجامعات اللبنانية.

في التسعينات قامت بإنتاج ألبومات بتقنية الطباعة الحجرية مستوحاة من الأساطير الفينيفية. يومها درست الرسم على البورسلان. وعام 1971 أقامت أول معارضها في مركز جون كنيدي ببيروت. بعده أقامت أكثر من 15 معرضا شخصيا توزعت بين بيروت وباريس وأبوظبي والخبر. وقد زينت برسومها عددا من الكتب، منها “قصص وأساطير من لبنان القديم” و”وظائف ونداءات” و”اليوم الخامس” و”باريتوس مدرسة القانون”.

إعادة بناء الجمال

موقع خفي تقيم فيه الروح
موقع خفي تقيم فيه الروح

في واحدة من محاولاتها المهمة أعادت صحناوي رسم لوحات، كان رسامون أوروبيون قد استلهموها من مناظر لبنانية. لم تكن تلك المحاولة نقلا مباشرا أو حرفيا. أرادت الفنانة أن تصل إلى روح المشهد ولم تكتف بصورته. فهي تعرف أن أولئك الرسامين لم يكن في إمكانهم أن يصلوا إلى ذلك الموقع الخفي الذي تقيم فيه الروح.

كانت تجاربهم حسية. حتى شعورهم بالمتعة البصرية لم يتجاوز حدود الزمن الذي يمر من غير القدرة على استعادته. هل كان الرسم محاولة للإبقاء على الحاضر كما لو أنه زمن مستمر؟ بالنسبة إلى صحناوي فقد جهز أولئك الرسامون مادة جمالية مصدرها الفن. تلك مادة يمكن أن توضع إلى جوار مادة جمالية أخرى جهزها الواقع.

ما رسمته صحناوي يستند إلى فكرة عن الزمن الذي يتمدد بين خيال الذكرى وواقعية الرؤية. ليس الأمر كذلك تماما؛ فصحناوي حين ترسم لا تضع هي الأخرى خيالها جانبا.

لبنان نراه في رسوم صحناوي كما لم نره في أي وقت آخر. لقد جسدته لكي يكون لبنان الآخر الذي لم نعرفه وهو الخارج من الحرب

وتعترف الرسامة بأهمية تلك الرسوم من خلال العودة إليها. هي بالنسبة إليها مرجع جمالي وليست وثيقة تاريخية. تعيد صحناوي بناء الحكاية لكن بقوة جمال مختلف. ذلك هو جمال الواقع الذي هو مجموعة المفردات التي ترتقي بطريقة التفكير في الفن. لقد أعادت بناء الصور. تلك مهمة جليلة عرفت الفنانة الطريق إليها عن طريق الفن.

في ظل جذورها العربية

عام 2011 أقامت منى صحناوي معرضا في أبوظبي بعنوان “الجذور العربية”. موضوعات ذلك المعرض كانت مستمدة كما تقول “من أغصان أشجار النخيل التي تنادي العصافير أو تتمايل في ضوء القمر وصوت العود في القرية وجبال الأرز الشاقة وساحل البحر الأبيض المتوسط وبائع البطيخ النائم وبيوت اليمن الرائعة ونهر النيل المنساب بهدوء في أرض مصر وبائع الأقمشة الدمشقي وجوامع الإمارات والقلاع والطواطيس”.

تحتاج صحناوي إلى مرجعيات جمالية أخرى ليست بعيدة عن بيئتها الأصلية. هناك قدر لافت من الرومانسية في استحضار الموضوع وفي المعالجة. وهو ما يعكس الرغبة في أن تظل الحرب في مكانها. تلك مشكلة شخصية سيكون عليها أن تعود إليها في مناسبات أخرى. أما إعلانها عن الجذور العربية فإنه لا يعني بالضرورة نوعا من التفكير في العودة إلى ما يُسمى بالفن العربي الإسلامي. من منظور سياسي معاصر تعالج صحناوي قواعد هويتها الوطنية. تلك هوية تتشكل من مجموعة الهويات الجمالية التي اختبرتها الرسامة وتأثرت بها.

تجربة صحناوي تنطوي على موقف مضاد لطريقة التفكير الغربي في الفن. فهي تسعى لإنشاء فضاء تخترق من خلاله الزمن من أجل استعادة تقنيات مناقضة لما اتبعه رسامو الانطباعية

ألغاز الحرب في خيالها

كان علينا أن نعرف أن الحرب لم تنته بالرغم من أن صحناوي لا ترسم مقاتلين أو قتلى أو بنايات مدمرة. كل ما في لوحاتها يشير إلى أن الحرب كانت هنا. يمكن للكائنات المرسومة أن تقول بأنها عاشت الحرب. الرسامة نفسها هي إبنة الحرب. يمكنها أن تقول إن كل مفردة رسمتها عاشت معها تفاصيل الحرب. حتى القطط كانت تعيش في ظل الحرب.

ترسم صحناوي الحياة اليومية في ظل الحرب. غير أن خيالها كان يتحرك في الوقت نفسه في مناطق لم تكن الحرب تصل إليها. أساطير وحكايات وألغاز قديمة كانت بالنسبة إليها بيتا للخيال اللبناني الذي لم تدمره الحرب.

هي ابنة أزمنة لبنانية أشبه بالطبقات التي تقاوم الواقع الذي دمرته الحرب. “لقد كنت هناك”، ذلك لم تقله مباشرة غير أن رسومها تعبر عن الرغبة في أن تجسده. فبدلا من الحرب كانت هناك حياة ناعمة في المنمنمات وبدلا من الحرب كانت هناك حياة عظيمة في الأساطير الفينيقية. كان هناك لبنان الذي يخلق حياة تأسر العالم كله بين جناحيها. تفكر صحناوي في لبنان الآخر، لبنان الذي لم تره إلا في المخيلة.

في رسوم صحناوي نرى لبنان كما لم نره في أي وقت آخر. لقد جسدته لكي يكون لبنان الآخر الذي لم نعرفه وهو الخارج من الحرب. سيكون الخروج من الحرب صعبا. لذلك فإن اللجوء إلى المنمنمات يبدو حلا ناجحا.

9