منى السعودي.. الذاهبة بالنحت إلى هندسة الخيال

غيب الموت مؤخرا النحاتة الأردنية منى السعودي عن عمر ناهز السابعة والسبعين عاما. وبقدر ما سعت إلى أن يكون صمت الحجر لغتها بقدر ما كانت فلسطين تقيم على لسانها. كانت فلسطينية أكثر من أي شيء آخر. لكن فلسطينها تقع في الإنسان. كانت قضيتها ذات بعد إنساني أضفى على حداثتها طابعا ثوريا متمردا. نزحت من مخيمات التشرد وقد اختارتها ملاذا آمنا لأفكارها إلى العالم وهي تحمل فكرة مناهضة لكل ثوابته المتعالية على الحاجات البشرية المباشرة.
من عمان حيث ولدت إلى بيروت تعرفت على الحداثة إلى باريس حيث تعرفت على أسرار النحت وتقنياته ومواده إلى بيروت ثانية حيث استقرت وأبدعت وأخيرا إلى عمان حيث ستسعيد أحلامها وتموت، امتد خيط حلمها وظلت يدها قابضة على الحجر كما لو أنه جمرة تخبئ أكثر مما تظهر. سافرت منحوتاتها إلى العالم. سافرت معها، سبقتها وستبقى تشير إلى وقع خطوتها الذي يتشبه بذلك النغم الذي تسلل من يدها إلى أعماق الحجر.
حديقة من حجر

دفاتر الشعراء العرب الكبار تتزين برسوم السعودي التي كانت حينها تذهب إلى التجريد بقوة الخط الذي تفتقد إليه الكتلة
“شعر من حجر” هو عنوان معرضها الذي أقامته في دبي عام 2015. عبارتها التي تلخص خبرتها في الحياة والفن تتناقض مع كل ما كان متعارفا عليه من علاقة متينة بين الرسم والشعر، كونهما فنين انفعاليين، أما النحت فقد كان دائما قريبا من الرواية، حيث يتطلب العمل عليهما الكثير من الصبر والأناة والجهد العضلي بما يُعلي من شأن الحرفة البطيئة على حساب الانفعال السريع.
السعودي قلبت المعادلة التي كانت نوعا من البداهة فصار في إمكانها أن تتحدث عن حديقة من حجر، هي حديقة بيتها المليئة بالتماثيل. ولأن علاقتها بالشعر قديمة، فقد كان الشعر يتسلل إلى منحوتاتها ليضفي الشيء الكثير من غموضه على تلك الأحجار التي لم تعد أحجارا بسبب امتزاجها بنغم الجمل الموسيقية التي انبعثت من يد النحاتة لتتسلق سلمها الوهمي.
“حين تفقد الحجارة أوزانها تصير قصائد” تقول في إحدى قصائدها. وهي جملة تذكر بمنحوتات الإسباني تشليدا. أطنان من الحجر التي تتألف منها المنحوتة لم تمنعها من التحليق مثل جوقة عصافير. وهو ما يفعله الفن دائما.
دخلت إلى الشعر صبية لتتعرف من خلاله على الحياة المباشرة ولتهب نفسها معبأة بقدرته على التحدي للمستضعفين من البشر. كان كتابها عن رسوم أطفال المخيمات الفلسطينية فاتحة للتعرف على خيال أبناء المناطق المحرومة الممتلئين بحلم العودة إلى بيوتهم.
في باريس تقف منحوتتها الضخمة “هندسة الروح” أمام معهد العالم العربي كما لو أنها لا تقف على أرض بعينها، لا بسبب أسلوبها التجريدي بل بسبب ما توحي به من صفاء مبهم يصيب الروح برغبة التخلي عن البحث عن المعاني المتاحة والامتزاج بفكرة الخلق المطلق الذي يفكر بلغته الخاصة التي هي لغة الجمال الخالص.
حياة هي سفرة بين عمودين

ولدت السعودي عام 1945 في عمان، في بيت هو جزء من موقع أثري “سبيل الحوريات”. قضت طفولتها في تأمل الأعمدة والتماثيل الرومانية وهو ما ألقى بظلاله على مستقبلها الذي صار عبارة عن سفرة بين عمودين، تقول “كنت أترك أصدقائي لألعب مع التماثيل وأتأمل صناعتها وكيف دبت الحياة في الحجر. كانت تلك التماثيل بالنسبة إليّ كائنات حية وكانت تلك الأماكن الحقيقية الخيالية تعطيني الشعور بقدرة الإنسان على عمل أشياء عظيمة تبقى على مدى الزمن”.
حين تعرفت على النحات اللبناني ميشيال بصبوص عام 1963 في بيروت لم تكن سوى فتاة أنهت لتوها دراستها الثانوية. كان بصبوص معلمها الأول. فتح الفنان اللبناني حليم جرداق أمامها أبواب بيروت الثقافية لتتعرف على رموز تلك المرحلة القلقة التي كانت تستعد لتأسيس ثقافة عربية جديدة (أدونيس، يوسف الخال، أنسي الحاج، نزيه الخاطر وبول غراغوسيان) وهو ما مهد لها الطريق لإقامة أول معرض لرسومها في مقهى الصحافة، مبنى صحيفة النهار. حدث ذلك بدعم من مجموعة من الشعراء والفنانين الذين اكتشفوا في الفتاة القادمة من الصحراء موهبة مختلفة وخيال يد نزقة. في العام التالي رحلت إلى باريس. هناك ستتعرف على تماثيل قسطنين برانكوزي لتكون تلك المنحوتات مأثرة حياتها في النحت. إلهام الروماني برانكوزي لم يفارقها لحظة واحدة من حياتها، بالرغم من أنها أصبحت بجهدها ومثابرتها وموهبتها وخيالها وسعة معرفتها واحدة من أهم النحاتات المعاصرات في العالم.
عودة إلى هندسة الروح

السعودي قلبت المعادلة التي كانت نوعا من البداهة فصار في إمكانها أن تتحدث عن حديقة من حجر، هي حديقة بيتها المليئة بالتماثيل
كان جرداق حاضرا في مرحلتها الباريسية. بل كان بالنسبة إليها مفتاح مدينة النور. بين المدرسة العليا للفنون ومحترف الفنان كولاماريني تنقلت منى بأفكارها المتمردة ويدها المهووسة باختراق الحجر للكشف عن الحياة التي تختفي في أعماقه. في ذلك المحترف أنجزت الفنانة منحوتتها الأولى عام 1965. وكانت الأمومة موضوعها. عام 2007 أصدرت السعودي كتابا بعنوان “أربعون سنة من النحت” كان بمثابة تحية إلى تلك المنحوتة. عام 1969 عادت الفنانة إلى بيروت.
زينت السعودي دفاتر الشعراء العرب الكبار برسومها وكانت حينها تذهب إلى التجريد بقوة الخط الذي تفتقد إليه الكتلة. غير أنها في منحوتاتها سعت إلى أن تقترب من اللاشكل متأثرة بهانس آرب، وهو هدف من الصعب الوصول إليه. فالكتلة النحتية كيان مجسد لا يمكنه الإفلات من قدره الشكلي.
ما سعت إليه السعودي يتحدى قدرات النحت. أن تختفي الكتلة في لحظة النظر فلا يبقى منها سوى تأثيرها. ما الذي سيبقى من المنحوتة إذا؟ شيء يشبه كتابة الشعر الذي لم يكن سوى ملاحظات على هامش وجودها نحاتة. فالسعودي لم تكن شاعرة خالصة. كانت على الدوام نحاتة تكتب الشعر.
تقول في إحدى قصائدها
"وسأنحت لكم حبيبين، دائما اثنين
الذكر والأنثى، الأم الأرض والابن الجسد
وشكلا يعانق شكلا. حوار ــ صمت
وما يوجد من الحلم على الأرض
والإنسان نبات حلمه"
كانت دائما الفتاة التي قُبض عليها في أحد المطارات الأوروبية ذات مرة بتهمة التخطيط لاغتيال بن غوريون. شيء منها أحدث تغييرا في النحت بالعالم العربي. لقد كف النحت على يدها عن الثرثرة. كان على الحجر أن يقول شعرا.
النحت يا له من عمل شاق

“النحت ليس أصعب من عمل امرأة ترعى الأغنام، أو تحرث الأرض في حقلها. كما أن النساء في الماضي كن يقمن بأعمال شاقة في المنزل” تقول السعودي، وتضيف “النحت هو الإيمان بما يقوم به المرء. وهذا ما يؤدي به إلى الاستمرارية”، تفسر السعودي بطريقة مبسطة ما يراه الكثيرون معقدا. امرأة نحاتة هو أمر غير متوقع بل هو أمر غير مقبول.
ولكن لويزا بورجوا كانت نحاتة أيضا، سبقتها نحاتات آخريات. بالنسبة إلى السعودي فلا بأس أن تنتمي إلى القلة المحظوظة.
حين أصدرت كتابيها الشعريين “رؤيا أولى” و”محيط الحلم” لم تفكر في أنها ستكون مقروءة. صوت الشعر كما هو صوت الحجر هو الأهم. ولكي تكتمل معرفتها بالنحت كان عليها أن تذهب إلى كرارا الإيطالية، هناك تعرفت على الرخام. في الوقت نفسه تعلمت من العمال المهرة هناك أسرار استعمال الأزاميل والمطارق وصقل المنحوتات وتركيبها وحملها. لقد خُلقت تلك المرأة لكي تكون قوية من غير أن تتخلى عن عاطفتها الأنثوية، تقول منى “كنا نصعد إلى جبال المرمر في أوقات الفراغ عبر كروم العنب”.
لم تكن السعودي في حاجة إلى أن تحضر أحداث باريس عام 1968 لتتعرف على صلة المثقف بالحياة السياسية، وإن أبهرها أن تكون حاضرة في عمق صورة التحول الذي يشهده العالم.
لقد عاشت تلك الأجواء بانفعال مَن تعرف ما الذي ينتظرها. حين عادت إلى بيروت عام 1969 ممتلئة بأحلام الفنانة المغامرة كان عليها أن تعيش بعد سنوات أجواء حرب أهلية رفضتها.
في تلك السنوات خلقت السعودي شخصيتها الفنية التي ستُعرف بها على الصعيد العالمي. حين عادت إلى عمان عام 1983 كانت فنانة مكرسة. سيظل شيء من بيروت المتمردة يرافق حياتها إلى الأبد.
