منع التبني يقفل باب الرحمة ويتعارض مع الواجب الإنساني

على صفحات جريدة العرب السبت 03-08-2019 لفت نظري مقال الزميل زيد بن رفاعة “الزواج المؤقت.. المتعة التي حرمتها مذاهب وحللتها أخرى”، كتب فيه عن قبول العقل في المجتمعات العربية لرجم الرجل والمرأة المحصنين (المتزوجين شرعا) في ذات الوقت الذي يتقبل فيه علاقات الرجل المبررة في زواجات مؤقتة (بعقد متعة أو مسيار)، سواء كان متزوجا أم أعزب، وأن هذا النوع من الزواج كان معمولا به في الجاهلية وكان مُحللا.
هذا المقال يهتم بحق ثمرات هذه الزواجات في نسبهم لأبوهم وحقهم في إرثه ثم حقهم في حياة عادية ككل الأطفال من خلال التبني وإعطاء الاسم وليس فقط بالكفالة المادية المسموح بها قانونا بينما يُحرمون من التبني لأنه محرّم وتتزايد أعدادهم في المنطقة العربية. فكرتي تستند إلى تحفظات الدول العربية إضافة إلى بحث الزميلة التونسية لبنى الحرباوي الذي نُشر في صحيفة العرب في 10-3-2018 والعديد من مقالاتي السابقة عن موضوع التبني.
الإسلام يُحرم التبني وإن كان يُجيز الكفالة المادية والتي قد تقتصر على بقاء الطفل في مدرسة الأيتام مع دفع نفقاته المادية ولكن هذه الكفالة مع بقائه في الملجأ تحرمه من حقة الطبيعي في الإحساس بالدفء والحنان والحماية. والأهم تُعرّضه لوصمة العار التي تلازمه طول الحياة وبعد خروجه من الملجأ في سن الثامنة عشرة بلا أهل ولا أصدقاء وبلا أمل في تكوين عائلة تحرمه من حقه الإنساني الطبيعي في حياة طبيعية وبناء أسرة نظرا لأن لا نسب له. وتقديس النسب في المجتمعات الإسلامية وانعدام أهليته كلها تُخفى تحت عباءة الخوف من اختلاط الأنساب.
يصر المعارضون للتبني تحت ادعاء أنه لا يمكن نسب الطفل لأسرة لم يخترها. وإجابتي لهؤلاء المعارضين؛ نحن نولد بلا اختيار لأي من العائلة أو الدين أو اللون أو العرق. أليس هناك تناقض ما بين الدين الذي يؤكد أن حقوقنا الإنسانية متساوية بلا عنصرية ولا تمييز وبين ادعاء المعارضين؟
يضيف معارضو التبني أن هذا الطفل سيعيش مخدوعا إذا انتسب لأسرة أخرى مما قد يُدمر حياته عند الكبر ولا يستطيع التبرؤ من ذلك بسهولة، سيعيش مخدوعا. لكن من أكثر إيذاء للنفسية وصمة العار التي يلصقها به المجتمع أم انخداعه من الأسرة التي تكفلت به ماديا وأعطته الاسم واللقب الاجتماعي الذي يحمي حقه في مستقبل ووظيفة؟ ثم لماذا يتبرأ من أسرة أعطته قبولا مجتمعيا؟
العلاقة بين الطفل وأسرته ليست فقط بالولادة بل نمو العلاقة العاطفية بينه وبين العائلة التي تولت رعايته تصبح أقوى بكثير من مجرد الولادة. الأم ليست من تلد.. بل من تُربي.
أما في موضوع اختلاط الأنساب فعلى غير ما كان معمولا به في الجاهلية والحقبة الإسلامية التي تبعتها حين كان التعرف على النسب بالنظر والتدقيق في ملامح ووجه الطفل، فالتعرف على النسب في عالم اليوم بسيط جدا من خلال فحص الحمض النووي في دقائق.
لقد تكبلت مجتمعاتنا بسلاسل الالتباس ما بين القيم الإنسانية التي تنمي الأخلاق وقيود الحلال والحرام. واستغل أولو الأمر القوانين الدينية التشريعية التي أقرتها الحكومات العربية بالسماح بزواج القاصرات، وحرّمت أعلى القيم الإنسانية في العطاء حين منعت التبني، وأطلقت عليهم لقب أيتام وأضافت إلى بطاقاتهم الشخصية حين خروجهم من الملاجئ أرقاما تشير إلى أنهم مجهولو النسب، ويعتبرهم القانون ناقصي أهلية لا يُسمح لهم بالشهادة في المحاكم أو دراسة القضاء والوصول إلى مناصب قيادية أو الالتحاق بالجيش لأن لا نسب لهم.
تبقى تونس البلد العربي الأول والوحيد الذي شرّع التبني منذ عام 1958، وإن كانت الضوابط المحددة لاختيار العائلة المناسبة متشددة ومُعقّدة ومُطوّلة
في مصر التي أعتبرها قلب العالم العربي والتي استبقت الدول العربية الأخرى في حقوق المرأة سابقا والتي ومن المفروض أنها تتبع الإسلام المعتدل لا تزال وحتى يومنا هذا تمنع جميع المواطنين من التبني باعتباره مخالفا للشريعة الإسلامية. وتمنعه السلطات حتى للمسيحيين المسموح به وفقا لعقيدتهم.
وأضافت إلى هذا الإجحاف قرار وزارة التضامن رفع سن الزوجين الراغبين في الكفالة (وليس التبني) إلى ستين عاما وأن تكون الأسرة البديلة باستطاعتها الإنفاق على الطفل الذي ترعاه. كيف تستطيع امرأة ورجل في الستين القيام برعاية هذا الطفل سواء جسديا أو معنويا؟ إضافة إلى المشكلة السكانية التي تتزايد في مصر وفي العشوائيات بالتحديد، والتي يُقال بأن عدد مجهولي النسب في تزايد بها.
هناك 4 آلاف طفل مجهول النسب في الجزائر، وهناك ما يقارب خمسة ملايين طفل يتيم في العراق بينهم 2.5 مليون لا يسمح المجتمع بإنهاء معاناتهم تلميحا إلى أنهم من مجهولي النسب فالمعاناة لا ترتبط باليتيم المعروف نسبه.
أما في لبنان والذي يتكون من 19 طائفة فحق التبني تحدده الطائفة حسب قوانينها المذهبية، وبينما هو مسموح به وحلال للطائفة المسيحية يبقى مُحرّما على جميع المسلمين بمختلف طوائفهم.
وفي الأردن أكدت دراسة بحثية زيادة عدد مجهولي النسب ولكن بلا أرقام.
وفي سوريا التي تتوافق مع الدول العربية في منع التبني ولكنها تضيف إلى معاناته الإنسانية وصفه وفق القانون السوري بلقب لقيط.
تبقى تونس البلد العربي الأول والوحيد الذي شرّع التبني منذ عام 1958، وإن كانت الضوابط المحددة لاختيار العائلة المناسبة متشددة ومُعقّدة ومُطوّلة ولكن الخطر الذي يحدق بالتبني كقيمة إنسانية يحيط به الآن في حال وصل الإسلاميون إلى الحكم.
أنا أبحث عن الإنسانية التي انعدمت من قلوبنا كبشر وتوافقت الحكومات على ترسيخ هذه الانتهاكات في حق الأطفال في قوانين تشريعية تستند إلى 1400 سنة وتتعارض مع الهدف والمقصد الأول للشريعة وهو الفائدة المجتمعية وتتعارض مع تواقيع الدول العربية على الاتفاقيات الدولية التي تنص على حماية الأطفال وحقوقهم في الحياة.
وتنص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل على حقه في الحياة في أسرة توفر له بيئة عائلية ترعاه وتحميه أي أن الفائدة متبادلة، وجوده في رعاية أسرة تضمن له النمو العاطفي السليم يقابلها تعويض حرمان العائلات المحرومة من الإنجاب. والنتيجة أن هذا النمو الطبيعي يثري المجتمع ويساهم في خلق مجتمع سوي يجذر للإنسانية التي في قلب كل الشرائع السماوية. كما يجذر للمساواة في الحقوق الإنسانية ويعمل على خلق مجتمعات راقية وحكومات تزرع بذور الديمقراطية والعدالة.
تحفظات الدول العربية على أي من بنود الاتفاقية سواء تحفظات عامة أو خاصة على مواد محددة تحت تبرير تعارضها مع الأحكام الشرعية يقدم صورة سلبية عن الشريعة ويسيء إلينا كبشر نرسخ للتمييز وعدم المساواة وعدم العدالة. بينما يؤكد الدين أننا نولد أحرارا ومتساوين إضافة إلى أن الخطاب الديني والتحريم يقفلان باب العقل والرحمة والتعاطف الإنساني مع هؤلاء الأطفال.
إضافة الحكومة لقانون منع التبني تتعارض مع الواجب الإنساني الأخلاقي مما يزيد من حدة مشكلة أطفال الشوارع ويفتح المجال أمام جريمة الاتجار بالبشر وبيع الأعضاء وكلاهما جريمة في حق الطفل والمجتمع المتحضر.
إن الله لم يحرم نسب الطفل لغير أبيه البيولوجي والدليل على ذلك ما عُرف وكُتب في كتب التاريخ من أن والدة عمر بن العاص ضاجعت ثلاثة من أغنياء قريش خلال فترة زمنية قصيرة. وكيف تسابق كل منهم لنسب المولود له ولكنها اختارت أن تنسبه للعاص لأنه أغناهم. السؤال هنا إذا كان ناقص الأهلية كيف ولاّه عمر بن الخطاب على مصر؟