منعطف بوريل، من شعبوية الناخب إلى شعبوية المسؤول

للرئيسي الروسي فلاديمير بوتين عام 2019 مقابلة مكتوبة نشرتها “بي.بي.سي” يتحدث فيها عمّا سماه “موت الليبرالية”.
وبجملة “عفا عليها الزمن” علق ساخراً معتبراً أن الأيديولوجيا التي دعمت الديمقراطيات الغربية لعقود “تجاوزت هدفها”.
مرت سنوات على تصريح بوتين منها ثلاث سنوات من كورونا وثمانية أشهر من بدء حرب أوكرانيا، إذ كان تنبؤ بوتين قبل ذاك مدعاة للاستبعاد، وكذلك اعتباره أن أفكارًا مثل أن “التعددية الثقافية” لم تعد قابلة للاستمرار لأن الليبرالية تتعارض مع مصالح الغالبية العظمى من الشعوب.
بعيداً عن بوتين المغضوب عليه غربياً يُكتب اليوم عن صعود اليمين والشعبوية والتغيرات التي يعيشها الناخب الأوروبي وعن هذا التراجع في عموم أوروبا لكتل اليسار الكلاسيكية، موجة إذ نتجت عن المرارة الاقتصادية فإنها ماضية لا تأخذ في الحسبان كل المخاوف التي يروج اليسار بأنها ستتبع نجاح اليمين المتطرف والذي يفترض مآلات وتحديات كبيرة بين الدول الجارة في الاتحاد الأوروبي.
◙ يُنظر إلى كلام بوريل على أنه مخاطبة للأوروبيين أنفسهم، لتذكيرهم بأنه مهما يكن من أمر تبقى هذه أوروبا الحديقة، والواقع أن كلامه لا قيمة له لدى المواطن الخائف مما هو آت
هذه النظرة الواقعية الصرفة المعادية للجهاز السياسي التقليدي التي تسيطر على الأوروبيين ليست جديدة أو طارئة بسبب أزمة الطاقة التي دبرها بوتين بليل. بل انسلت مع الكساد الذي عاشته أوروبا عام 2008 ومن ثَم فقد استقرت بعد معاناتها من كورونا، وضربِ فايروس أخطر من كوفيد القطاعات الصحية والاقتصادات المنيعة، وفشلِ التيارات السياسية العريقة والمكرسة في تقديم الحلول والإسعافات حتى ذهب الساسة في إيطاليا مثلاً إلى القول: لقد انتهت حلول الأرض! وإيطاليا هذه تشهد اليوم زلزالاً سياسياً إذ بدأت تُعادى السياسة من داخل مؤسساتها، فوز أقصى اليمين كان سابقة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه الظاهرة لم تبدأ في إيطاليا، فقد “نجت” – كما يحلو للتيار الليبرالي أن يقول – فرنسا من فوز مارين لوبين الذي كان وارداً وموافقاً لمزاج متعاظم، والزعيمة التي كادت تصل إلى سدة الحكم حظيت في انتخابات الجولة الأولى بـ40 في المئة من أصوات الفرنسيين.
شمالاً تأخذ السويد نصيب الأسد من التبدلات، فعدا أنها تخطط مع فنلندا لتشييع الموديل الأسكندنافي بجلدته الرمادية والتوجه نحو موديل آخر منحاز ضد روسيا، يتابع المواطنون هناك إجراءات الانضمام إلى الناتو تزامنا مع انتخابات خسرت فيها الكتلتان اليساريتان (الحمر والخضر) لصالح كتلة الحزب اليميني المتطرف ما شكل صدمة دفعت بالحزب الغالب إلى التنازل عن تشكيل حكومة على الرغم من اكتساحه أكبر نسبة من الأصوات، وسيعطى الحزب المحافظ الأولوية لتشكيل الحكومة بتعلة أن الحزب اليميني المتطرف يلقى معارضة كبيرة من الأحزاب عامة وعلى رأسها الحزب الليبرالي وهو رافض لمشاركة الحكومة مع الحزب الرابح إياه.
في أدبيات السياسة مفهوم أن نزوع الناس إلى ترجيح كفة الشعبويين سببه ظروفهم الاقتصادية، وتعكس تفضيلاتهم لطبيعة الحكم شدة ومدى تجذر الأزمات، بداية من مناداتهم بحكم التكنوقراط وحكم النخبة إلى أقصى الحالات سوءاً من دعم للأحزاب الشعبوية في (الأنظمة الديمقراطية).
◙ بعيدا عن بوتين المغضوب عليه غربياً يُكتب اليوم عن صعود اليمين والشعبوية والتغيرات التي يعيشها الناخب الأوروبي وعن هذا التراجع في عموم أوروبا لكتل اليسار الكلاسيكية
يُسأل اليوم بعد تصريحات مسؤول كجوزيب بوريل واستحضاره لكلمة أدغال، هل أفلست أوروبا خطابياً؟ وماذا عن شعبوية اليسار واليمين بآن في القارة التي صدَّرت مفاهيم صارت أشبه بثيوقراطية علمانية، لقد عُلمنت الأخلاق حين وضعت شرعة لحقوق الإنسان حتى بدا للعالم بعد الحرب العالمية الثانية بأن النازية لن تتكرر وأن معاداة السامية لن يسمح بها وأن الدكتاتوريات الفاشية لن تستمر طالما أن ما يسمى “المجتمع الدولي” ألزم نفسه بذلك.
على سيرة الأدغال والحدائق في أوروبا، كانت توجد فعلاً حدائق حيوان بها بشر اختطفوا من أفريقيا ليُستعرضوا هناك، بل إنه في بلجيكا عام 1958 عُرضت “طفلة” أفريقية في قفص مع قرد وكان الناس يطعمونها وكأنها حيوان والكاميرات تصور.. والمثال حاضر للقول إنه ليس جدلياً أنه لم تغب نظرة الدونية للمجتمعات الأخرى حتى في المحافل العلمية. لوحة الأفريقي سريع الجري منعدم الفكر التكتيكي مقارنة بذاك الأبيض خارق الذكاء ما زالت مكرسة في كرة القدم.
بعكس كل ما قيل بأنه استفزاز للثقافات الأخرى، يُنظر إلى كلام بوريل على أنه مخاطبة للأوروبيين أنفسهم، لتذكيرهم بأنه مهما يكن من أمر تبقى هذه أوروبا الحديقة، والواقع أن كلامه لا قيمة له لدى المواطن الخائف مما هو آت، فلا الولايات المتحدة وضعت ثقلها لتحمي أوروبا في أزمة الطاقة الأخيرة ولا الاتحاد الأوروبي بتلك القوة ليحمي نفسه من نزاعات القوميات الصاعدة عالمياً، ولا حال ما يسمى اليوم “مجتمعاً دولياً” بكل أوابده سيؤهل بوريل ليدافع عما قاله وها قد اعتذر عنه.