منظمة التحرير: من الخنادق إلى الفنادق

في المقال السابق عرضت لثلاثة مشاريع استهدفت تطويع الضمير العربي وتهيئته لقبول إبادة الشعب الفلسطيني بدم بارد، وهي كالتالي: مشروع تغذية الساحة بالنزاعات المذهبية، والثاني مشروع شيطنة المقاومة، والثالث صهينة العقل العربي.
وأتوقف في هذا المقال عند أحد أهم المشاريع الداخلية التي اشترك في صناعتها لفيف من دول العالم بإدارة إسرائيلية، وكانت من أنجح المشاريع التي أخّرت حل القضية الفلسطينية، وبررت محاصرة المقاومة الفلسطينية وشيطنتها بدلا من مساندتها.
تمثل هذا المشروع في تحويل المنطق النضالي إلى منطق تجاري. فقبيل رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وتحديدا في 13 سبتمبر 1993 تم توقيع إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكومة الانتقالية مع إسرائيل، والتي قامت على مبدأ الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود على 78 في المئة من أراضي فلسطين، ونبذ المقاومة المسلحة.
وبعد سنوات اكتشف عرفات أنه وقع في فخ أوسلو حين منعته إسرائيل من مغادرة رام الله للمشاركة في قمة القاهرة، حينها خطب عبر الأسلاك وهو يصارع الدموع في عينيه، بينما واصلت إسرائيل فرض متغيراتها عبر الاستيطان، وعزل الضفة وتقسيمها، وتهويد القدس. وبعد وفاة عرفات تحولت السلطة الفلسطينية وظيفيا بقيادة محمود عباس إلى شرطي محلي.
◙ بعد أن كان الجميع ينتظر أن تعبِّر السلطة الفلسطينية عن إرادة شعبها، وتقود المبادرة نحو مقاومة الاحتلال، تحولت إلى عبء على شعبها، يشغلها التنافس على حجم المكاسب والصفقات
ماطلت إسرائيل في المفاوضات واللقاءات مع أعضاء السلطة الفلسطينية، ونقلت بعضهم بشكل مدروس من خنادق المقاومة إلى فنادق رجال الأعمال، وأصبحت الأراضي الفلسطينية أمام واقع جديد، عنوانه الصفقات والاتفاقات، وأدمن قادة المنظمة تقديم التنازلات، وفق قواعد التعاون السياسي والاقتصادي مع الكيان الغاصب.
فلسفة الانتقال هذه كان ثمنها باهظا جدا، فقد استطاع الإسرائيلي إنتاج حكومة فلسطينية شبيهة بالحكومات العربية داخل الأراضي الفلسطينية؛ حكومة تندد إعلاميا بالاحتلال وتعقد الاتفاقات السياسية والاقتصادية معه في الخفاء. وتولت منظمة التحرير مهمة شيطنة حركات التحرير الفلسطينية الأخرى، ومحاولة اختراقها وتهميشها.
في 2013 دعا الرئيس محمود عباس لهدم أنفاق غزة، وفي 2015 دعا لإغراقها بالماء أو إغلاقها بسياج حديدي، وبعد طوفان الأقصى بستة أيام لم يتردد في المساواة بين المقاومة والاحتلال حيث أعلن رفضه العمليات التي تستهدف المدنيين والتنكيل بهم من كلا الجانبين، معتبرا أعمال حماس لا تمثل الفلسطينيين.
هذه السلطة المترهلة والمتواطئة مع الاحتلال هي جزء من الترتيبات الدولية وتهيئة الرأي العام لتقبل إبادة الشعب الفلسطيني، وهي جزء من المعاناة التي تعيشها الأراضي المحتلة اليوم، وحتى الآن فإن ما يشغل السلطة الفلسطينية هو كيف تتم إزاحة حركة حماس من إدارة قطاع غزة بعد الحرب لتأخذ مكانها؟
وبعد أن كان الجميع ينتظر أن تعبِّر السلطة الفلسطينية عن إرادة شعبها، وتقود المبادرة نحو مقاومة الاحتلال، تحولت إلى عبء على شعبها، يشغلها التنافس على حجم المكاسب والصفقات، ويكاد دورها يكتفي بإيجاد الأعذار للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، وإعاقة أيّ بوادر مقاومة أو مشاريع تحرير.