كيف تعيد جغرافيا غزة توزيع الشرعية؟

لم تعد الضربات العسكرية في الإقليم مجرد أحداث أمنية، بل لحظات كاشفة تعيد ترتيب مفاهيم الشرعية والتموضع السياسي. فالضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية وقيادات إيرانية، لم تكن فعلا معزولا، بل تكثيفا لدور إسرائيل كفاعل مركزي في التشكيل السياسي القادم في المنطقة.
هذه العملية، تعكس كيف تتحوّل الجغرافيا السياسية من مساحة للصراع إلى أداة لإنتاج الشرعية. فإسرائيل لم تعد “خارج النظام العربي”، بل أحد مفاتيحه، وبهذه الأثناء، تكرس بعض الدول نفسها كحارس للمصالح الغربية وشريك صامت في إدارة الأمن الجماعي.
هذه الديناميكية التي تُعرف نظريا بالوكالة المعولمة تشرح كيف تتحول الصهيونية من كيان استيطاني إلى آلية لإعادة إنتاج شرعيات سياسية هشّة، تعتمد على التطبيع مع التبعية الدولية، كضرورة لأخذ اعتراف ضمني من النظام الدولي.
لم يعد الصراع مقتصرا على الأرض، بل أصبح معركة على تعريف الحق والسيادة. فالقوة لم تعد حكرا على الدول التقليدية، بل باتت في يد الفاعلين الذين يعيدون تشكيل السيادة كممارسة يومية، لا كمعطى ثابت
سوف أحاول في الأسطر القادمة أن أشرح موقع كلٍ من الاحتلال الصهيوني من جهة، والمقاومة في غزة من جهة أخرى، ليس على المستوى العسكري، وإنما على مستوى المنظومة المعرفية لاستيعاب حجم التحدي القادم وأبعاده على المنطقة العربية.
إذ لم يعد الاحتلال، في صورته المعاصرة، مقصورا على السيطرة الميدانية، بل اتسعت دلالاته ليشمل السيطرة على اللغة، والمفاهيم، والمعاني. ووفقا لذلك، فإن اختراق المشروع الصهيوني للمنطقة العربية تجاوز حدود الجغرافيا إلى اختراق منظومات الإعلام، والتعليم، والفكر السياسي.
نحن الآن أمام لحظة لم تعد فيها إسرائيل خارج النظام العربي، أو غريبة عنه، بل هي مدمجة فعلا ضمن آلياته: كمصدر تهديد يبرر التحالفات، وكشريك غير معلن في معادلات الأمن الإقليمي، وأحيانا كحليف صامت في وجه الخصوم المشتركين. إنها حقبة زمنية جديدة، سواء اعترفنا بها أو لم نعترف.
أما غزة، فإنها تُمثل ظاهرة فريدة من نوعها. فبينما تعيد المقاومة هناك تعريف مفهوم الموقف السياسي عبر تحدي الحصار، فإن بعض الأنظمة العربية توظف مواردها لتعزيز التبعية عبر تسهيل التبادل التجاري والثقافي مع القوى المحتلة.
هذا التناقض يكشف تصادما معرفيا بين الخطاب العربي الرسمي والممارسة الفعلية، حيث تُصبح “الواقعية السياسية” غطاءً لإدارة التبعية لا مقاومتها. وهو ما يشير إلى تحوّل جوهري في مفهوم السيادة من الإرادة الوطنية إلى كونها مجرد أداة وظيفية في النظام الدولي.
غزة تتحول شيئا فشيئا إلى فضاء حيوي يُعيد تشكيل موازين القوى الرمزية. فالمقاومة لا تتحدى البُنى العسكرية فحسب، بل تُعرّي أيضا أزمة شرعية نظام الوكالة
لا يقتصر الأمر على المستوى السياسي، بل يمتد إلى آليات تشكيل الوعي الجمعي. فوسائل الإعلام، بحجة “الضرورة”، تعيد تجريد الصراع من أبعاده التحررية، بينما تُفرغ المناهج التعليمية التاريخ من مضمونه النضالي. هذه العمليات تُنتج عقلية تتقبل تحويل التبعية إلى سياسة الأمر الواقع.
تتحول غزة شيئا فشيئا إلى فضاء حيوي يُعيد تشكيل موازين القوى الرمزية. فالمقاومة لا تتحدى البُنى العسكرية فحسب، بل تُعرّي أيضا أزمة شرعية نظام الوكالة. وهنا يبرز السؤال المحوري: كيف أصبحت جغرافيا غزة المهشّمة مصدرا للشرعية الشعبية بينما فقدتها عواصم عربية؟
الإجابة تكمن في تحليل مصادر المشروعية. فالمقاومة تستمدّها من الإرادة الشعبية الحيّة، ومن تعاطف طابور عريض من الشعوب لأسباب دينية وقومية وإنسانية، بينما تعتمد تلك الحكومات على شرعية خارجية قابلة للتجمد والتحول عند أول اختبار.
ختاما، لم يعد الصراع مقتصرا على الأرض، بل أصبح معركة على تعريف الحق والسيادة. فالقوة لم تعد حكرا على الدول التقليدية، بل باتت في يد الفاعلين الذين يعيدون تشكيل السيادة كممارسة يومية، لا كمعطى ثابت.
هذه الديناميكية تضع الدول العربية أمام خيار حاسم: إما الانخراط الفعلي في إنتاج شرعية حقيقية عبر التماهي مع عدالة القضية الفلسطينية، ومواجهة العدو الصهيوني كركيزة للتمكين السياسي العربي، أو البقاء على هامش المعادلات الدولية.