منصة بلّغ.. الشعبوية في خدمة السلطة لمطاردة الرأي الآخر في العراق

منظمات تطالب بوقف المنصة بعد قمع الناشطين بحجة محاربة المحتوى الهابط.
السبت 2025/01/25
حملة مكافحة المحتوى الهابط غير قانونية

تثير منصة بلّغ، منذ إطلاقها قبل عامين، جدلا واسعا جددته مجموعة من منظمات المجتمع المدني ترفض اعتقال الناشطين وملاحقة المدونين والمعارضين استنادا إلى التبليغات عبر المنصة التي غالبا ما تعكس منظومة ثقافية معينة بطريقة شعبوية تتنافى مع القانون.

أربيل (كردستان العراق) - أدانت مجموعة من منظمات المجتمع المدني بشدة استمرار السلطات العراقية في استخدام منصة بلّغ كأداة لمراقبة المحتوى على الإنترنت وقمع حرية التعبير، بزعم مكافحة “المحتوى غير اللائق” على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرة أنها تحولت إلى وسيلة لتسهيل الاعتقالات التعسفية والمضايقات والملاحقات القضائية ضد النشطاء والمبدعين.

وفقاً لتلك المنظمات أدت المنصة إلى فرض رقابة صارمة وخلق مناخ من الرقابة الذاتية، وهو ما زاد من تدهور سجل حقوق الإنسان في العراق.

وأُطلقت منصة بلَغ من قبل وزارة الداخلية العراقية في يناير 2023، وتتيح للمواطنين الإبلاغ بشكل إلكتروني عن أي محتوى مخالف، ولكن سرعان ما أثارت مخاوف حقوقية بسبب استخدامها في قمع حرية التعبير واستهداف المدونين المنتقدين للسياسات الحكومية.

ورافقت إطلاق المنصة حملة لمحاربة المحتوى الهابط، وبالفعل تم اعتقال عدد من الشخصيات المعروفة على مواقع التواصل، وحكم عليها بعقوبات متفاوتة.

وكانت نتائج الحملة في الشهر الأول من انطلاقها تلقي الآلاف من الشكاوى عبر المنصة وأصدر القضاء العراقي أحكاما بالسجن بين عامين وستة أشهر، نقضت من قبل محكمة التمييز وخففت العقوبة إلى ثلاثة أو أربعة أشهر.

وشملت المجموعة الأولى بحسب تصريح للقاضي المتخصص في قضايا النشر والإعلام عامر حسن 14 متهماً بالمحتوى الهابط.

منح وزارة الداخلية صلاحيات قضائية للتعامل مع "المحتوى غير اللائق" يثير قلقا بشأن استغلالها ضد المعارضين

ولاحقا أطلق سراح عدد منهم بعضهم نتيجة ضغط شعبي لأن محتواهم لم يعتبره الجمهور هابطاً، منهم عبود سكيبة الذي يقدم فقرات ساخرة باللغة الإنجليزية، وممثل شاب يقوم بتأدية دور امرأة (مديحة) في مقاطع كوميدية.

وخلال الفترة الممتدة من فبراير إلى أغسطس 2023 استقبلت المنصة حوالي 96 ألف شكوى أسفرت عن 44 إجراءً قانونيًا. وبحلول أغسطس 2024 ارتفع عدد الشكاوى إلى أكثر من 152 ألفا، وهو ما يعكس الاستخدام المكثف للمنصة وارتباطها بحملات قمعية مستمرة.

ورغم التحذيرات الحقوقية منذ انطلاقها، تواصل السلطات استخدام المنصة كأداة مراقبة عامة.

ويرى العديد من الناشطين أن مفهوم “المحتوى الهابط” غير محدد من قبل السلطات العراقية وهو غامض وغير مفهوم، وسط دعوات لتعريفه وتوضيحه.

واعتبر البعض أن الطبقة السياسية الحاكمة كرّست لغة الكراهية تحت يافطة الدين ضد مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي بشتى الطرق، بداية من الجيوش الإلكترونية وصولا إلى توصية بعض رجال الدين بالحديث عن الفاشينستات والتحريض ضدهن في المجالس والمنابر والخطب الدينية، وجعلت منهن شياطين يهدّمن قيم المجتمع وأخلاقه ويتسبّبن في انحلاله، حتى وصل الأمر إلى شن حملة “مكافحة المحتوى الهابط”.

وبحسب خبراء في القانون فإن حملة مكافحة المحتوى الهابط غير قانونية إطلاقا؛ لأنها تتنافى مع الدستور العراقي أولا، ومع مادة مبادئ الديمقراطية التي كفلها الدستور ثانيا، ومع مادة حرية الرأي والتعبير ثالثا، ولا وجود لأيّ مادة قانونية صريحة يمكن الاستناد إليها لتنفيذ الحملة.

خبراء في القانون يرون أن حملة مكافحة المحتوى الهابط غير قانونية إطلاقا؛ لأنها تتنافى مع الدستور العراقي

وقال المحامي محمد جمعة إنّ قرار وزارة الداخلية العراقية إنشاء المنصة جاء “بعد الفشل في تمرير قانون جرائم المعلوماتية في البرلمان العراقي، والذي احتوى على عبارات فضفاضة، تؤثّر على حرية التعبير في العراق، وبعد فشل تشريع القانون تم اللجوء إلى إصدار المنصة.”

وأضاف جمعة أن منصّة بلّغ غير قانونية، لكونها استندت إلى قانون عقوبات قديم عُدّل في الثمانينات، وفي وقت لم تكن فيه وسائل التواصل الاجتماعي موجودة؛ فالمادة القانونية لا تتحدث عن النشر الإلكتروني، بل عن الرقابة على الكتابة والمطبوعات والأفلام، وليس المحتويات الإلكترونية.

وتستند الملاحقات القضائية المتعلقة بالمنصة إلى المادة 403 من قانون العقوبات العراقي، التي تُجرّم المحتوى “المخل بالحياء أو الآداب العامة”. وقد تعرضت هذه المادة لانتقادات واسعة لعدم توافقها مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يلزم العراق باحترام حرية التعبير ضمن معايير الضرورة والتناسب. إلا أن الصياغة الغامضة لمفاهيم مثل “الحياء والآداب العامة” تُفسح المجال لاستغلال القانون ضد المعارضين.

كما أوضحت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن مفهوم “الآداب” يختلف باختلاف الثقافات والتقاليد، ولا ينبغي أن يستند إلى وجهة نظر واحدة فقط. وحتى التعبيرات التي قد تكون مسيئة أو استفزازية يجب أن تكون محمية بموجب العهد الدولي.

وأضافت أن المنصة تعاني من نقص في الشفافية بخصوص الشكاوى والإجراءات المتخذة، حيث غالبًا ما يظل الأفراد غير مدركين لوضعهم إلا بعد اعتقالهم. كما أن منح وزارة الداخلية صلاحيات قضائية للتعامل مع “المحتوى غير اللائق” يثير قلقًا بشأن استغلالها ضد المعارضين السياسيين.

العديد من الناشطين يرون أن مفهوم "“المحتوى الهابط" غير محدد من قبل السلطات العراقية وهو غامض وغير مفهوم

وتابعت أن المنصة ساهمت في خلق مناخ من الرقابة الذاتية، حيث يتجنب الأفراد التعبير بحرية خوفا من التعرض للمساءلة. كما أنها شجعت على الإبلاغ بين الأفراد، وهو ما زعزع الثقة الاجتماعية وقمع التنوع والآراء المختلفة.

وجددت المنظمات، ومن بينها منظمة المادة 19 ومنظمة انسم للحقوق الرقمية ومركز المعلومة للبحث والتطوير ومنظمة ريحانة المصطفى الإنسانية ومنظمة جنة العطاء للإغاثة والإنسانية وجمعية الدفاع عن حرية الصحافة ومركز مترو، دعوتها السلطات العراقية لإغلاق هذه المنصة وضمان حماية حرية التعبير سواء في الفضاء الرقمي أو في الحياة اليومية.

ووفقًا لمنظمة انسم للحقوق الرقمية، فإن النساء، وخاصة اللواتي يتحدين المعايير الاجتماعية التقليدية، تعرضن لاستهداف غير متناسب من قبل الإجراءات القانونية المرتبطة بالمنصة. ويعكس هذا الأمر اتجاهًا إقليميًا لتقييد حقوق النساء تحت شعارات الأخلاق والنظام العام.

وجرى اعتقال العشرات من النساء، ومعظمهن من الفاشينستات، فيما اعتقل عدد قليل جدا من الرجال.

وطالبت منظمات الحكومة العراقية بإغلاق منصة بلَغ على الفور، وإطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية استخدامها، وإسقاط التهم الموجهة إليهم. كما دعت إلى إلغاء التشريعات التي تتعارض مع الالتزامات الدولية للعراق في مجال حقوق الإنسان، وتحديدًا المادة 403 من قانون العقوبات.

وأضافت أنه ينبغي وضع معايير واضحة وشفافة لتعريف “المحتوى غير اللائق” بما يضمن الحد من الانتهاكات والرقابة الذاتية، ويحقق التوازن بين حماية القيم المجتمعية وضمان حرية التعبير.

وفي بحث بعنوان “علاج المشكلة بالأزمة: المحتوى الهابط في وسائل التواصل الاجتماعي في العراق بين المجتمع والقانون”، كتب حيدر عبدالمرشد “في مجتمع يشهد تناقضات شديدة مثل المجتمع العراقي، فإن آلية التبليغ بحد ذاتها تنطوي على خطورة كبيرة تمكن مجموعة ثقافية أو جماعة دينية منظمة بصورة جيدة، من قيادة حملة تبليغات لوصف محتوى ما بأنه هابط وفقاً لمنظومتها الثقافية الفرعية.”

وهذا “سيصطدم بالحريات التي كفلها الدستور من جانب، وبواجب الدولة بحفظ النظام عبر أسس صحيحة غير خاضعة للشعبويات، ولا تنساق خلف آراء مجموعة على حساب مجموعة أخرى، مع ضرورة حفظ المنظومة الأخلاقية العامة المتعاهد عليها والتي انبثق عنها الدستور في الوقت نفسه.”

5