منح الأبناء خصوصية ثقافية.. هاجس الأسر العربية في المهجر

بعض الأسر المهاجرة سعت إلى استثمار الفورة الفنية للأولاد في سن المراهقة وارتباطهم بالأغاني العاطفية، في بناء علاقة انسجام مع اللغة والثقافة العربية من خلالها.
الخميس 2019/04/11
ما بين هويتين

تواجه الأسر ذات الأصول العربية في الولايات المتحدة مأزقا خطيرا على المستوى الاجتماعي خلال السنوات الماضية، يتمثل في الانقطاع التام بين أبناء الجيل الثالث من الأسر وبين أوطانهم الأصلية، ما يدفع معظمهم إلى الانسجام التام مع المُجتمع الأميركي، والتمرد على عادات وتقاليد المجتمعات العربية.

يرى كثيرون أن غالبية الحكومات العربية فشلت في ربط جالياتها المهاجرة بالوطن الأم، ما حفّز كثيرا من الأسر على البحث عن جسور جديدة للربط بين الأجيال الجديدة وجذورها.

ووجدت تلك الأسر ضالتها في الفنون والثقافة العربية، حيث يلجأ الجيل الثاني إلى ربط الأبناء بالمجتمعات الأولى عن طريق الأغاني والدراما والمسرح وغيرها من الفنون، بهدف منح الأطفال خصوصية ثقافية في وقت مبكر لعلها تقف حائط صد في مواجهة النفور التقليدي من بعض القوالب العربية.

ويبدو الجيل الثالث لكثير من الأسر المهاجرة منقطع الصلة عن بلاد الأجداد، فإذا كان الآباء ـ الجيل الثاني ـ يتصلون بشكل ما مع العالم العربي بحكم عيش بعضهم فيه وهم أطفال وشبان، فإن الجيل الثالث ولد في أميركا ولم ير غالبيته بلاد الأجداد.

ويؤكد أميركيون ذوي أصول عربية أن الثقافة والفن يلعبان دورا هاما في تثبيت الهوية والحفاظ على قيم وتقاليد العرب. وتقول منال عامر، سيدة تمثل الجيل الثاني لعائلة عربية مهاجرة إلى الولايات المتحدة منذ عشرين عاما، في حديث لـ”العرب”، إنها نجحت في بث عادات وتقاليد المجتمع العربي لدى ابنيها عن طريق الدراما العربية.

وتتابع الأسرة بشكل دوري مسلسلا واحدا على الأقل يوميا والعديد من المسلسلات خلال شهر رمضان، حتى يُمكن لأفرادها الصغار التعرف بشكل مباشر على القيم العربية. وتُساهم متابعة الدراما بصورة منتظمة في تقوية اللغة العربية، وتعليم المشاهدين، خاصة عند متابعة الدراما التاريخية التي تتسم بالنطق السليم للكلمات، فضلا عن الآثار الثقافية والمعرفية المتنوعة، التي تغيب تدريجيا في ظل البعد المكاني وانشغال جميع أفراد الأسرة بأعمالهم وما تشهده الحياة متسارعة الخُطى في الولايات المتحدة.

وترفض منال وزوجها انسلاخ الجيل الثالث لكثير من الأسر العربية عن ثقافته الأصلية لصالح المجتمع الأميركي، موضحة “الدراما أسهل وسائل الفنون وصولا إلى عرب المهجر وأكثرها قدرة على التأثير في النشء”. غير أنها تحفظت على بعض نماذج الدراما التي تُركز على الشرائح النخبوية في الأسر العربية، وتعتبرها غير معبرة بشكل صحيح عن الواقع العربي.

وسعت بعض الأسر إلى استثمار الفورة الفنية للأولاد في سن المراهقة وارتباطهم بالأغاني العاطفية، في بناء علاقة انسجام مع اللغة والثقافة العربية من خلالها. واستضافت بعض الجاليات العربية خلال السنوات الأخيرة العديد من الفنانين العرب في مجال الغناء والطرب وأقامت حفلات غنائية لهم.

وتحدث عمر هيكل، مهاجر عربي مُقيم في نيوجيرسي لـ”العرب”، عن انبهار الأبناء بالأغاني الشبابية الشعبية العربية، وبمطربين عرب، وكان من الغريب بالنسبة لهم إعجاب الشباب بأغاني المطربين الشعبيين.

وتسمح قوانين الولايات المتحدة بقيام الفرد بتنظيم حفلات غنائية واستضافة أي مطرب أو فنان من الخارج وتأجير مسارح ودور عرض سينمائية لإقامة الحفلات. وتختلف أسعار تذاكر الحفلات حسب موقع المتفرج، وشهرة النجم القادم.

ويرى البعض من المقيمين أن الحفلات الغنائية تمثل فرصة مناسبة لتعارف الأسر العربية، ما يمثل مستوى أفضل من ذلك الذي يتم عبر المساجد والكنائس، والذي يأخذ طابعا دينيا، قد يتمرد عليه الشباب. وساهمت الأغاني العربية في تشجيع أبناء الجيل الثالث على الاقتراب من الجذور والسعي إلى زيارة الأماكن الأصلية لأسرهم.

وتقول إيناس عبدالرحمن، فتاة عشرينية تمثل الجيل الثالث لأسرة هاجر الجد فيها عندما كان صغيرا إلى أميركا في بداية الستينات من القرن الماضي، واعتبرت أنه رغم ميلادها في الولايات المتحدة، وقضاء نحو عشرين عاما هناك إلا أنها تنتمي عقلا وروحا إلى بلد جدها.

وقالت إن اهتمام أبويها بتنشئتها على الأغاني العربية لأم كلثوم، وفيروز، ووردة، وصباح، ونجاة، وعبدالحليم حافظ، وغيرهم من كبار المطربين أسس لديها قواعد تذوق للغناء العربي.

وتحفظ أغاني الرواد، وتشاهد أفلاما قديمة وحديثة، وتصر على الحديث مع أفراد أسرتها باللهجة المستخدمة في الأفلام والأغاني. وأكدت إيناس لـ”العرب”، أن ذلك أنتج لديها رغبة لزيارة الوطن الأصلي رغم أن والديها لم يسافرا إليه منذ فترة طويلة. وقضت شهرا مع قريبة لها وشعرت بألفة شديدة في التعرف على المجتمع العربي عن قرب، وعايشت الناس، وخبرت عاداتهم وأعجبت بنمط الحياة السائدة هناك، نتيجة تشابك العلاقات الأسرية بشكل أفضل، وفكرت بشكل جاد في الاستقرار في بلدها وبناء حياة جديدة.

الجيل الثاني يلجأ إلى ربط الأبناء بالمجتمعات الأولى عن طريق الأغاني والدراما والمسرح والعديد من الفنون الأخرى

ما حدث مع الحفلات الغنائية تكرر بصور مشابهة مع فنون أخرى مثل المسرحيات، إذ استقبلت بعض الولايات الأميركية، خاصة كاليفورنيا ونيوجيرسي، فرقا مسرحية عربية قامت بعرض أعمالها.

وتصل السينما إلى صغار السن من أسر المهاجرين عبر “يوتيوب” وبعض الفضائيات الناطقة بالعربية. وهناك حنين غريب إلى الأفلام القديمة يتناسب مع رغبة الشباب في استكشاف الماضي والتعرف على أزمنة الأجداد وطبيعة الأسر التي كانت تعيش فيها.

وثمة اهتمام كبير بالكوميديا الحديثة، ومازال بعض الفنانين الذين لم تعد لديهم قدرة على إضحاك المتفرجين في العالم العربي، مثيرة لدى بعض الأسر التي تقيم في المهجر.

وفي تصور أسر كثيرة، تسمح طبيعة المجتمع الأميركي بشكل كبير ببث ألوان عدة من الثقافة والفنون في حرية مطلقة دون تدخل أو ازدراء.

وتساعد تلك الطبيعة على غرس قيم وعادات وثقافات مغايرة في نفوس الأبناء والأحفاد المولودين في أميركا، لأن هذا البلد يختلف كثيرا عن طبائع مجتمعات غربية أخرى، فهو مُجتمع متعدد، ويضم أجناسا من مختلف دول العالم، ويستوعب ثقافات ومعتقدات وأنماط اجتماعية كثيرة، ما يعني أنه لا توجد خصائص بعينها تحكم ثقافته، وهو ما يمنح الكثير من الأسر العربية هامشا للحركة والعودة إلى الجذور.

21