منحوتات باتريشيا بيتشينيني وحوش تشكك في إنسانيتنا

المجسمات أعمال نحتية تطرح من خلالها الفنانة مخاوف متعلقة بالآثار المترتبة على عمليات التهجين الجينيّة.
الأحد 2022/12/11
وحوش ناعمة وبريئة

وجوه قبيحة، أجساد شنيعة، عيون تأسرنا، وتفاصيل ترعبنا. هذا بشري برأس دولفين، وآخر كسنجاب بخرطوم فيل، وذلك يبدو كقردا دميما. هذه الأشكال البشعة والمروّعة هي عدد من الإبداعات النحتية التي تتسم بخروجها عن نطاق المألوف، وما يزيد دهشتنا نحوها هي واقعيتها غير المعهودة.

هذه المجسمات لم تُصنع لتوظف في أفلام الرعب ولا من أجل أفلام الخيال العلمي. هذه الوحوش هي أعمال نحتية للفنانة باتريشيا بيتشينيني التي تطرح من خلالها مخاوف متعلقة بالآثار المترتبة على عمليات التهجين الجينيّة.

باتريشيا بيتشينيني هي نحاتة أسترالية ولدت سنة 1965، متحصلة على الدكتوراه الفخرية في الفنون المرئية من الكلية الفيكتورية للفنون. اشتهرت منذ التسعينات بمنحوتاتها القبيحة التي تتخطى المعايير الجمالية التقليدية. اهتمت الفنانة في بداياتها بدراسة علوم الأمراض والتشوّهات الجينية، وهو ما أثّر بشكل كبير على ممارستها الفنية.

تبرع الفنانة في تشكيل تفاصيل منحوتاتها بدقّة متناهية تهتم فيها بإظهار مسام الجلد وشرايين اليد وحتى أدق شعيرات الجسد. تشكل باتريشيا أجسادا رغم واقعيتها المفرطة، إلا أنها لكائنات خيالية تجمع بين الجسد الإنساني والحيواني. تمتلك هذه المسوخ النحتية ملامح وتعابير رغم بشاعتها، إلا أنها تستحوذ على عاطفتنا، فهي مخلوقات تولّد فينا ردود فعل متضاربة تجمع بين النفور والعطف والقلق.

بوكس

قبل شروع الفنانة في عملية التشكيل النحتية تبدأ برسم صور خطيّة لنماذجها النحتية لتنتقل في مرحلة موالية مع فريقها التقني إلى جعلها كائنات ثلاثية الأبعاد، بواسطة قوالب السيلكون والطلاءات الزيتية والشعر الحقيقي. تطلق باتريشيا بيتشينيني العنان لخيالها في نحت مسوخها المذهلة ذات التراكيب والوضعيات المتنوعة، لا تمتلك الفنانة خيالا هائلا فحسب، بل تمتلك أيضا معرفة علمية معمقة.

تقدم النماذج التي تصنعها الفنانة سيناريوهات خيالية تقترح احتمالات متشائمة حول الإخفاقات العلمية التي قد تؤدي إلى ولادة هذه الكائنات. تسمح بعض الدول بزراعة الجينات البشرية في أجساد الحيوانات بشرط ألاّ تتجاوز مدة احتضان الحيوان للخلايا البشرية ستة أسابيع، وتجاوز هذه الفترة قد يؤثر على إدراك الحيوان ونموّه، وهو ما يعتبر جرما في حق الحيوان وخرقا للميثاق الأخلاقي. وضعت العديد من الدول قوانين مشددة تجرم مثل هذه التجارب، معتبرة إياها تجاوزا للمحظور.

ويعود السبب وراء سماح بعض الدول الأخرى بإنجاز هذه التجارب إلى حاجة العديد من الناس إلى عمليات زراعة أعضاء، فالكثير منهم يموت يوميا بسبب نقص المتبرعين. وجد الباحثون حلا لهذه المعضلة من خلال زراعة أعضاء بشرية داخل فئة معينة من الحيوانات كالفئران والخنازير وحتى الأبقار، وبعد أن يتم العضو المزروع نموه يتم نقله إلى جسد الإنسان. وبالرغم من أن هذه العملية قد تساهم في إنقاذ العديد من الأرواح إلا أنها قد تضع البشرية أمام مأزق جديد، فماذا لو أثرت هذه العملية على إدراك الحيوان ونموه؟ وماذا لو تسبب هذا الخلط بين الجينات بحدوث طفرة من نوع ما قد يعجز العلماء عن السيطرة عليها؟ هذه التساؤلات تناولتها الفنانة من خلال ممارستها النحتية التي تتكهن بولادة كائنات ستفرزها الإخفاقات العلمية.

أعمال الفنانة ليست بتخيلات إبداعية مستحيلة، ففي ضوء ما نعيشه اليوم بات المستحيل ممكننا. فبالرغم من البشاعة التي تتسم بها شخوص باتريشيا إلا أنها لا تتصف بالعدائية، حيث نجد مع بعض هذه الوحوش مرافقا بشريا غالبا ما يكون طفلا، إما يلعب معها أو يقوم باحتضانها، وهو ما يثير فينا شعورا بالتعاطف. هذه الوحوش البريئة والهشّة هي كائنات مسالمة ضحيّة فضول الإنسان وغطرسته. يحتضن هؤلاء الأطفال الوحوش الأليفة ويواسونها، وكأنهم يعتذرون باسم البشرية عما أصابهم من تشويه.

قدمت لنا باتريشيا بيتشينيني وحوشا تقطع مع صورة الوحش القاسية والدموية التي تناقلتها الخرافات والأساطير القديمة، فقدمت لنا وحوشا رغم فظاعة مظهرها إلا أننا نلتمس فيها نوعا من النعومة والبراءة.

شاع قديما استخدام الوحوش في الرسومات الدينية من أجل ترهيب غير المتدينين، فتجعلهم صور المسوخ المرعبة يهتدون إلى الكنيسة. أما مع الحداثة فقد حشر الرسامون الوجوه الملتوية ذات التعابير المفزعة في لوحاتهم، فتكون بذلك شاهدا على الحالة النفسية والاجتماعية التي عاشها الفنان. اختلف الأمر مع الفن المعاصر، فتم توظيف الوحش من أجل إحباط غرور الإنسان وإظهار حقيقة أن من بين جميع الكائنات الحيّة هو الوحيد الذي دائما ما يقود البشرية نحو الخراب.

 

ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

13