"مناجاة العاشقين" لمحمد شحاتة.. قصائد بين التصوف والمديح النبوي والدين

الفرق كبير بين الشعر الديني وشعر التصوف.
الأحد 2022/08/28
التصوف ليس التدين

الفرق جلي وواضح بين القصائد الدينية والقصائد الصوفية، ففي حين تنحو الأولى إلى مديح النبي وحب الإله، بطرق خارجية حذرة في أغلبها، فإن الثانية تحفر عميقا في علاقة الخالق بمخلوقه التي تصورها من الداخل بشكل يتجاوز أطر التدين المعروفة وما تراه الشريعة، ما جعل الصوفيين في مأزق دائم مع رجال الدين. لكن المزج بين عالمين ممكن أيضا وهو ما حاوله الشاعر محمد شحاتة.

انقسم ديوان “مناجاة العاشقين” للشاعر والأكاديمي محمد شحاتة إلى ثلاثة مساقات شعرية، هي: مساق التجلي (واحتوى على ثماني عشرة قصيدة)، ومساق التجلي والأغيار (واحتوى على سبع قصائد)، ومساق تجليات الأحوال (واحتوى على ثماني قصائد) ليبلغ مجموع قصائد الديوان ثلاثًا وثلاثين قصيدة، معظمها من بحر الكامل التام (12 قصيدة) بالإضافة إلى بحور أخرى من أمثال: الطويل والوافر والرمل والمتقارب والخفيف والمضارع والمتدارك وغيرها، مع ملاحظة وجود قصيدتين تنتميان إلى الشكل التفعيلي، وهما: الجوى أقرب، وقطار بلا صدى، وردتا بالقسم الثالث.

ومن عنوان الديوان نستطيع أن نحدد اتجاه الشاعر، فهو يتحدث عن العشق والعاشقين والمعشوقين، غير أنه لا يستغرق في هذا العشق إلى درجة التصوف الذي أنتج لنا أعمالا وقصائد كثيرة كالتي نقرأها عند الحلاج وابن عربي وابن الفارض ورابعة العدوية وجلال الدين الرومي وذي النون المصري، وغيرهم من أقطاب الصوفية.

التصوف ليس التدين

إن قصائد محمد شحاتة في هذا الديوان تتراوح بين القصائد الدينية وقصائد المديح النبوي وقصائد التصوف الخفيفة، وفرق كبير بين القصائد الصوفية، والقصائد الدينية، وقصائد المديح النبوي.

وعلى الرغم من وجود ألفاظ تنتمي إلى عالم الصوفية مثل التجلِّي، والوجد، والفناء، والشوق، والمحو، والمقام، والحُجُب، والخلوة، والسُّكر، وغيرها، فإن الشاعر لم يغرق في بحار الصوفية، وإنما نراه واقفا على شاطئها، يتأمل هذا العالم الروحاني العميق، الذي يجعل الإنسان منكفئا على باطنه أكثر من ظاهره، ويرى العالم من حوله من خلال منظاره الذاتي الباطني. فربما يُلقي اللهُ الروحَ عليه، فهو القائل في سورة غافر / الآية 15 “يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ”.

في قصائد “مناجاة العاشقين” نرى الخارج أكثر من الداخل، أو نرى حركة الحياة الخارجية أكثر مما نرى الحركة الداخلية أو الجوانية، فالجوانية فلسفة تنظر إلى المخبر ولا تقف عند المظهر، وتلتمس الباطن دون أن تقنع بالظاهر، وتلتفت إلى المعنى وإلى القيمة وإلى الروح من وراء اللفظ والحس والظواهر. ومع ذلك لم تشغل كثافة الظاهر شاعرنا محمد شحاتة عن لطف الباطن.

"مناجاة العاشقين" قصائد بين التصوف والمديح النبوي والدين

ولنتخذ قصيدة “مناجاة العاشقين” التي عنون بها الشاعر ديوانه أو مجموعته الشعرية، دليلا على ذلك، حيث نرى من العالم الخارجي السماء والأرض والأنهار والبحار والأمواج والأنوار الخارجية، ولعل ذلك يتضح في بيت الشاعر الذي يقول فيه “رُؤاه في الآي تترى /  وتُجلي للناظرينا”.

نحن هنا أمام رؤية خارجية للعالم الذي استعانت الذات الشاعرة ببعض مفرداته، مقابل مفردات أقل تدل على الحركة الداخلية الموّارة بالحب والعشق لإله العالمين، ومنها القلب والروح والوجدان.

في قصيدة “هو الله” يتضح الفارق بين القصيدة الدينية والقصيدة الصوفية، في القصيدة الصوفية تبرز ذات الصوفي إلى الدرجة التي يتخيل فيها أنه هو الله، أو أن الله حلَّ فيه، مثلما نلاحظ في قول الحلاج “أنا من أهوى ومن أهوى أنا / نحن روحانِ حللنا بدنا / فإذا أبصرتَه أبصرتني / وإذا أبصرتني أبصرتنا / روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ / مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا”.

يقول ابن عربي في تفسير هذه الأبيات: إن المحب (الله) أحبَّ بعض عباده، فكان سمعَه وبصرَه ولسانَه وجميعَ قواه.

والقصيدة الدينية لا تغوص في هذه المنطقة الروحية الشائكة، رغم أنها تتغنى بالذات الإلهية أيضا، مثل قول شاعرنا محمد شحاته “هو الله الذي لا رب إلا هو / تبارك شأنُه سبحان أسماهُ / إله الكون قبل الخلق كلِّهمِ / هو الباري بديع الحسن ربَّاه”.

وتمضى القصيدة الدينية – عند شحاتة – في ذكر بعض أسماء الله الحسنى مثل الباري والرحمن والرحيم والرؤوف، وبعض هذه الأسماء والصفات تطلق أيضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل الرحيم والرؤوف، وفي الآية 128 من سورة التوبة: “قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”.

وهناك من أسماء الله ما لا يعلمها إلا الإنسان، ولا تعلمها الملائكة، بما فيها إبليس الذي “أبى واستكبر وكان من الكافرين” (البقرة الآية 34)، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة الآية 33 “قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ، فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّىٓ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ”. فعلموا بذلك أن لله أسماء لم يكن لهم بها علم يسبحه بها هؤلاء الذين خلقهم وعلَمها آدم فسبّح الله بها.

الشاعر محمد شحاتة لا يقتحم عمق الصوفية بل نراه واقفا على شاطئها

وعند الشاعر محمد شحاتة، يتم تناول أسماء الله الحسنى من منظور الشريعة، وليس من منظور التصوف، فشاعرنا أستاذ الشريعة الإسلامية (تخصص فقه، وفقه مقارن). والفرق كبير بينهما – كما أرى – في الشريعة سننظر إلى كلب أهل الكهف على أنه كلب (أي حيوان) كان في صحبة الفتية المؤمنين حسب النص القرآني في سورة الكهف (الآية 22) “سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ”.

ومن وجهة نظر التصوف، يرى مولانا جلال الدين الرومي في “المثنوي” أن الكلب صار وليًّا في صحبة الأولياء، فما عادت صورتُه الكلبية – كما كانت – بعد أن غرق في بحر النور الإلهي.

في الشريعة الإسلامية لا تُستساغ مثل هذه التصورات والرؤى، لأنها تقوم على التلقي بالعقل، بينما في عالم التصوف نصل إلى مرحلة التلقي من الله.

وفي هذا يقول أحد الشعراء “فإن بَدَا منهم حال توَلُّهِهِمْ / عن الشريعةِ فاتْركْهم مع اللهِ / لا تَتَّبِعْهُم ولا تَسْلكْ لهم أثرًا / فإنهم طُلقاءُ اللهِ في اللهِ”.

الشريعة لن تتوقف عند حبس الشمس لنبي الله يوشع بن نون عليه السلام، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الشمس لم تُحْبَسْ لبَشَرٍ إلا ليوشع لَيَاِلَي سافَرَ إلى بيت المقدس”.

والشريعة لن تتوقف عند انشقاق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهي إحدى معجزات النبي محمد. حدثت في مكة وقبل الهجرة النبوية عندما طلب المشركون من النبي محمد آيةً تدل على صدق دعوته، فانشقَّ القمر نصفين (أو فلقتين)، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان. كما أن الشريعة لن تتوقف عند انشقاق البحر لموسى وقومه أثناء خروجهم من مصر.

ودائما ما تصطدم المصطلحات أو التعبيرات الصوفية بمصطلحات أو تعبيرات الشريعة الإسلامية، لدرجة الحكم على قائلها أو معتنقها بالحرق والإعدام كما حدث مع الحسين بن منصور الحلاج على سبيل المثال الذي كثرت الوشايات به إلى الخليفة المقتدر العباسي، فأمر بالقبض عليه عام 922 م في بغداد، فسجن وعذب وضرب وهو صابر لا يتأوه ولا يستغيث.

قال ابن خلكان “وقطعت أطرافه الأربعة ثم حُزَّ رأسه وأُحرقت جثته ولما صارت رماداً ألقيت في دجلة ونُصب الرأس على جسر بغداد”. وقال ابن النديم في وصفه “كان محتالاً يتعاطى مذاهب الصوفية ويدعي كل علم، جسوراً على السلاطين، مرتكباً للعظائم، يروم إقلاب الدول ويقول بالحلول”.

عشق خاص ومديح

هناك نزعتان تجذبان الشاعر، نزعة الماضي الدنيوي بحكاياتها وذكرياتها ونزعة الحاضر في التوق إلى دخول التصوف

كثيرا ما تحدثنا كتب التاريخ والرحلات عن المناوشات التي تحدث بين مشائخ الصوفية وعلماء الشرع والقضاة، مثلما حدث بين الشيخ جمال الدين الساوي والقاضي ابن العميد في دمياطـ وورد ذكره في كتاب “رحلة ابن بطوطة” فعندما التقيا سأله القاضي: أنت الشيخ المبتدع؟ فقال له الساوي: وأنت القاضي الجاهل؟ وبعد شد وجذب ينتصر في النهاية الشيخ جمال الدين الساوي، ويصبح القاضي ابن العميد من أتباعه. يقول ابن بطوطة “فقبَّل القاضي يده، وتتلمذ له، وبنى له زاوية حسنة، وصحبه أيام حياته حتى مات الشيخ، فدفن بزاويته”.

ولكن شاعرنا محمد شحاتة لم يبلغ هذه الشأو في التردد بين الشريعة والتصوف، وكل ما يبغي الحصول عليه هو نشوى مناجاةٍ تناجي العاشقين. وهو يقترب في هذا الأمر خطوات من رؤى الصوفية الذين يرون أن العشقُ داءٌ في القلوبِ دفينُ، وأن العشق هو العشق لله فحسب، فهو أقوى صلة بين العبد وربه، وأن الله يقبل عشق عبده، ولا يؤيسه ولا يرده – بكرمه – عن بابه.

لذا سنرى أن شاعرنا شحاتة لا يتغنى إلا قليلا بالمرأة، وإن وصفها فهو يصفها بأوصاف مثالية، مثل قوله “ونساؤنا فوق النقاء مُشَقْشِقَة”، تذكرنا بالعذريين من الشعراء، كما لاحظ الشاعر عاطف الحنَّاوي في مقال مصاحب للديوان، وتفسيري أن هناك من هو أسمى من المرأة، هو الله، وأن هناك حبًّا أو عشقًا أرفع من حبِّ أو عشقِ المرأة هو عشق الذات الإلهية، حتى أنه لم يلجأ إلى الرموز الأنثوية التي يطلقها الشعراء والمتصوفة على الذات الإلهية، مثل ليلى وسعاد وهند وغيرهن.

يقول الشاعر في قصيدته “هو مَن أُحب” “هو من أُحب، وحبُّه ما هزني / في غفلة الأغيارِ في النور السني / نور يفيضُ جلالُه بَعد المدى / والعشق يرسل سره ما خصَّني / والعاشقون على الشعاعِ تجمّعوا / وعلى الطباق تدامعوا، لكنني”.

ويبدو أن عشقَ شحاتة عشقٌ من نوع خاص، ونكتشف هذا من خلال ضمير المتكلم  أو الياء في (ما خصّني، لكنني) في الأبيات السابقة، فهو يوحي لنا بأن لعشقه خصوصية ما في قوله “والعشق يرسل سره ما خصَّني”.

وفي تجمع العاشقين على الشعاع الإلهي الذي يرمز للعشق الإلهي يستثني نفسه أيضا في قوله (لكنني). وكنت أتوقع كلاما بعد (لكنني) التي جاءت في نهاية البيت الثالث أعلاه، (لكنني كذا ..) ولكنه يغلق البيت على نفسه، لنكمل نحن – كقراء أو متلقين – المعنى، وهي لعبة لغوية وموسيقية أجادها الشاعر، استطاع عن طريقها أن يقيم التقفية (النون والياء) مع بقية أبيات القصيدة.

قصائد محمد شحاتة في هذا الديوان تتراوح بين القصائد الدينية وقصائد المديح النبوي وقصائد التصوف الخفيفة

وقد استخدم الشاعر تعبير الأغيار، ويقصد به الآخرين، وهو مصطلح ديني يهودي يطلقه اليهود على غير اليهود. وفي الأدبيات الصهيونية العنصرية، فإن الصهاينة يعتبرون العربي على وجه العموم، والفلسطيني على وجه الخصوص، ضمن الأغيار حتى يصبح بلا ملامح أو قسمات ويشير وعد بلفور إلى سكان فلسطين العرب على أنهم “الجماعات غير اليهودية” أي “الأغيار”. وينطلق المشروع الاستيطاني الصهيوني من هذا التقسيم الحاد، فالصهيونية تهدف إلى إنشاء اقتصاد يهودي مغلق، وإلى دولة يهودية لا تضم أي أغيار.

وقد استخدم الصوفية هذا المصطلح أيضا، ويعني عندهم كل ما سوى الله تعالى.

والأغيار في اللغة جمع غَيْر، والغير ضد الذات. وفي “النصائح الرحمانية” لعبدالرحمن الشريف “جولانُك مع الغافلين حيَّرك، وركونُك للأغيار غيَّرك”.

وقد استخدم الشاعر شحاتة الأغيار في موضع آخر، فكان عنوانا للقسم الثاني “مساق التجلي والأغيار” أخرجنا به عن الأجواء شبه الصوفية في القسم الأول “مساق التجلي” وهو يقصد بالأغيار في هذا القسم أبوبكر الصديق، وعمر بن الخطاب، والشعراء فاروق شوشة، وصبري أبوعلم، وحسين عبداللطيف، وغيرهم، وأرى أن هذه المجموعة من القصائد لا تنتمي إلى أجواء الديوان ككل التي اتكأت على العشق الصوفي في دلالاته البسيطة، وعلى المديح النبوي. وهو ما تراه أيضا الناقدة سميرة شرف في دراستها المطبوعة بالديوان التي رأت أن توضع هذه القصائد في ديوان آخر ويقتصر هذا الديوان على العشق الإلهي.

ومن قصائد المديح النبوي التي أضاءت الديوان قصيدة “هو الحبيب” التي يقول الشاعر في مطلعها سبحان من رحِمَ الوجودَ بأحمدَ / وهو الرؤوف هو الرحيم هو الهدى / يا خيرُ من وطأ السماء ومَن دعا / وتنفَّس الإصباحُ حين تعبّدا / وتوضأ الإيمانُ في نهر التقى / فتكامل الإشراق، يبرق سرمدا / قلب البرية في اشتياق لقائه / والكون في لَهَفٍ يريد محمدا / يا خيرَ مَن صلَّى وصام وخيرَ من / ضحَّى وقامَ، يفيضُ ليس تشدُّدا”.

وعلى هذا النحو نرى قصائد أخرى في المديح النبوي مثل نحو الأزل، وقمر الدجى، وما زال يحترق الشروق، وفي القصيدة الأخيرة ترى د. سميرة شرف أن الشاعر يدمج بين الوُد والعشق الإلهي، وبين حب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم أفرد الستة أبيات الأخيرة للرسول صراحة.

نزعتا الماضي والحاضر

Thumbnail

أما في الجزء الثالث “مساق تجليات الأحوال” ففيه يتحدث الشاعر عن شهر رمضان المبارك، وعن اللغة العربية، وغيرها، وتوجد قصيدتان في هذا القسم أرى أنهما تنتميان إلى القسم الأول أكثر من انتمائهما إلى القسم الثالث، وهما : يا مولاي، ومناجاةٌ تناجي العاشقين.

وقد لاحظنا غياب الخضر – عليه السلام – عن قصائد هذا الديوان، والخضر اكتسب العلم اللدني، لذا نراه يتكرر كثيرا في كتب الصوفية وأشعارهم، كمرشد للأنبياء، وهو شارب ماء الحياة، ولذلك لا يموت أبدا. ولكننا لا نراه في قصائد محمد شحاته، في هذا الديوان، وهو ما يؤكد وجود مسافة بين قصائد الديوان وقصائد التصوف عميقة المعنى والدلالة.

لكننا نرى هاروت وماروت في قصيدة “هو الحب” في قول الشاعر “كأن الهوى هاروتُ إذ ينفث المروى / فيُسقي هُيامَي الحبِّ تعويذةً سرُّ / وماروتُ غنَّى الناي ألحان أوْرادي / كما لألأَ الدمع الذي جاشه البحرُ”.

ودائما ما تتحدث كتب الصوفية عن “هاروت وماروت” اللذين ورد ذكرُهما في القرآن الكريم في الآية 102 من سورة البقرة. وهما ملكان مُرسلان من الله إلى البشر في بابل، أُنزِل عليهما السحر بإذن الله؛ امتحاناً وابتلاءً للناس وكانا قبل أن يعلِّما الناس السحر، يقولان لهم إنهما فتنة فلا تكفروا. وهو ما يتكئ عليه الشاعر معترفا بأنه لم يغوَ ولم يشرك حسب البيت “إلهي أمَا محَّضْتُك الحبَّ، لم أُشركْ / ولم أغوِ فامننْ إن أتى البعثُ والنشرُ”.

الشاعر لم يغرق في بحار الصوفية، وإنما نراه واقفا على شاطئها، يتأمل هذا العالم الروحاني العميق، الذي يجعل الإنسان منكفئا على باطنه أكثر من ظاهره

كما أننا لا نرى أرواح قتلى العشق في أبيات الديوان، التي تنال بقتلها الخلود. ومن أحاديث الصوفية “من أحبني قتلته، ومن قتلته فأنا ديته”. و”لا خير في عشق بلا موت”. فالغنى في الترك، والشبع في الجوع، والحياة في الموت.

وهكذا تراوحت قصائد ديوان “مناجاة العشق” للشاعر محمد شحاتة بين درجة أولى من درجات التصوف، والقصائد الدينية والمديح النبوي، وقد أحصت الناقدة سميرة شرف حركة الأفعال في الديوان فوجدتها 793 (سبعمئة وثلاث وتسعين) فعلا، منهم 376 (ثلاثمئة وستة وسبعين) فعلا مضارعا، بنسبة 47,4 في المئة و 398 (ثلاثمئة وثمانية وتسعين) فعلا ماضيا بنسبة 50,2 في المئة، (أي أن النسبتين متقاربتان) وذكرتْ أن أهمية الفعل المضارع لكونه فعل الحركة ويمثل الدراما ومدى حركتها في العمل، كما يمثل الفاعلية والمشاركة والاندماج في الحياة، أما الفعل الماضي فيمثل الحكي ورواية التاريخ والماضي.

ونستطيع أن نصل إلى دلالة صوفية لهذه الأرقام، وهي أن هناك نزعتين تجذبان الشاعر، نزعة الماضي الدنيوي التي تشد الشاعر إلى الوراء فتجعله يروي ويحكي ويتذكر أجزاء ومشاهد من حياته، ونزعة الحاضر التي تتمثل في توقه إلى الدخول إلى عالم الصوفية والسباحة في بحارها، غير أنه لم يزل على الشاطىء ينظر ويترقب ويحاول، لذا فنحن في أشد الشوق لنرى الأعمال القادمة لهذا الشاعر، وهل استطاع السباحة في أعماق أكثر غورا وأبعد مسافة مما هو عليه الآن في “مناجاة العاشقين”؟

وأختم بقول ابن عربي “إن العشق هو إفراطُ المحبة أو المحبةُ المفرطة”. ونحن في انتظار هذا الإفراط لنكون شهودًا عليه.

12