ملاحظات على هامش مراسيم المنفي

خرج رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا محمد المنفي على مواطنيه بجملة مراسيم اعتبرتها البعثة الأممية إجراءات أحادية الجانب، ووافقتها واشنطن على ذلك الوصف، فيما نظر إليها الشارع المحلي على أنها واحدة من مظاهر الكساد ونظرية تأبيد الفساد، من خلال تعطيل الحل وعرقلة الجهود الأممية والدولية الهادفة، ولو ظاهريًا، إلى الخروج من دائرة الجمود ومربع الانقسام. وتطرح تلك المراسيم عددًا من الملاحظات، من بينها:
أولًا: أُعلن عن هذه المراسيم رسميًا في الوقت الذي كان يُفترض أن يشهد الكشف عن مخرجات لجنة العشرين الاستشارية، وفق ما وعدت به رئيسة البعثة الأممية حنا تيتيه في إحاطتها أمام مجلس الأمن في 17 أبريل الماضي، عندما قالت إن نتائج اجتماعات اللجنة ستظهر أواخر الشهر. وهو ما يعني بوضوح وجود نية مبيتة من رئيس المجلس الرئاسي وفريقه وحلفائه لإعادة خلط الأوراق والدفع بالساحة السياسية والموقفين الإقليمي والدولي تجاه الأزمة الليبية نحو المزيد من الفوضى والتشتت. وما يعزز هذا الاحتمال أن المنفي سبق أن حاول تهميش دور اللجنة بقوله إنها “غير ملزمة للأطراف الليبية،” في مقابل محاولته الترويج لفكرة أن “الاستفتاء هو أحد البدائل” للخروج من حالة الجمود السياسي.
ثانيًا: جاءت هذه المراسيم في ظل اتساع دائرة الجهود الأممية والدولية الرامية إلى التسريع بالتوصل إلى اتفاق سياسي ينهي حالة الجمود، ويعالج الأزمة المالية والاقتصادية التي تواجهها البلاد بسبب فشل السلطات الحاكمة وارتفاع وتيرة النهب الممنهج للمال العام والعبث بثروات البلاد ومقدراتها، سواء من خلال الإنفاق الوهمي أو الصفقات المشبوهة.
◄ لعبة التحايل السياسي التي تم اعتمادها أفشلت خطة تنظيم الانتخابات، وعززت حالة الانقسام، وأغلقت أبواب الاجتهاد للخروج من مربع الجمود
وخلال الأيام الماضية، لوحظ أن واشنطن باتت تتحرك بقوة في اتجاه حلحلة الأزمة من خلال الانفتاح على جميع الأطراف تقريبًا. فقد أرسلت بارجتها “ماونت ويتني” وعلى متنها وفد عسكري إلى طرابلس وبنغازي لعقد لقاءات تشاورية مع كبار المسؤولين في شرق البلاد وغربها، كما استقبلت في واشنطن وفد حكومة عبدالحميد الدبيبة ورئيس أركان القوات البرية في الجيش صدام حفتر، ودخلت في نقاشات مفتوحة بخصوص المرحلة القادمة، وهو ما تقوم به أيضًا أطراف أخرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإقليمية المؤثرة.
ثالثًا: أصدر المنفي هذه المراسيم دون تأمين الاجتماع الذي يقتضيه الاتفاق السياسي، والذي يُعتبر شرطًا لشرعنة أيّ قرار أو مرسوم صادر من داخل المجلس. وهو ما أشار إليه عضو المجلس عن إقليم طرابلس عبدالله اللافي، حيث أكد أن “إصدار المراسيم الرئاسية يتطلب قرارًا جماعيًا للمجلس، ولا يمكن الانفراد به،” معتبرًا أن أي إعلان منفرد “لا يُمثّل المجلس الرئاسي مجتمعًا ولا يُرتب أثرًا دستوريًا أو قانونيًا، وهو والعدم سواء.”
رابعًا: جاءت هذه المراسيم في سياق سياسة المناكفات السياسية التي يعتمدها المنفي في إطار صراع الزعامة في المنطقة الشرقية التي ينحدر منها، وفي إطار تحالفه الثابت والمعلن مع أسرة الدبيبة، وهو تحالف لم يعد خافيًا على أحد، ويترجم لعبة المصالح القائمة بين الطرفين والرغبة في البقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة.
كما أن المراسيم ترتبط بقرارات سابقة، من بينها قرار الإطاحة بالصديق الكبير من منصب حاكم مصرف ليبيا المركزي، والذي أدى إلى أزمة مالية واقتصادية لا تزال البلاد تعاني من تبعاتها حتى اليوم. ثم قرار تشكيل مفوضية الاستفتاء والاستعلام الوطني، التي تختص بتنفيذ الاستفتاء والاستعلام الوطني، والإعداد له والإشراف عليه، وفرز نتائجه والإعلان عنها، ولها سلطة إصدار اللوائح التنفيذية والإجراءات اللازمة لتنفيذ عملية الاستفتاء وفق الدوائر الانتخابية المعتمدة وفق التشريعات النافذة، كما يمكنها اعتماد المراقبين المحليين والدوليين وكذلك الإعلاميين المحليين والدوليين
◄ المنفي سبق أن حاول تهميش دور اللجنة بقوله إنها "غير ملزمة للأطراف الليبية،" في مقابل محاولته الترويج لفكرة أن "الاستفتاء هو أحد البدائل" للخروج من حالة الجمود السياسي
هذا يؤكد وضوح خطة معسكر المنفي – الدبيبة للسير في اتجاه الاستفتاء على الدستور أو على قانون الانتخابات أو على أيّ مشروع قرار أو خطة عمل، واستبعاد مجلسي النواب والدولة من اللحظات السياسية الكبرى التي يتم التخطيط لها، وبالتالي الانقلاب على الاتفاق السياسي كما حدث في عام 2014، والدفع بالبلاد نحو مرحلة انتقالية دون أيّ سقف زمني، وهو ما يرغب فيه فريق الدبيبة الطامح إلى البقاء في الحكم لعشرين عامًا أخرى.
خامسًا: جاءت مراسيم المنفي لتؤكد مدى تفاقم حالة العبث السياسي في البلاد، حيث يتم تقديم المصالح الشخصية والأسرية والفئوية على المصلحة العامة، وانتصار النزعة النفعية ومنطق الغنيمة على مفهوم الدولة وسيادة القانون.
هذا المشهد يُبرز كيف تستفيد التيارات الانتهازية من التحولات السياسية والإستراتيجية والجيوسياسية التي تشهدها المنطقة والعالم، وكذلك فشل المجتمع الدولي، الذي أطاح بالنظام الليبي عام 2011 بعد حرب استمرت ثمانية أشهر بهدف الإطاحة بحكم العقيد معمر القذافي، في التوصل إلى اتفاق لمواجهة سلطة الميليشيات وحكم العوائل ونفوذ اللوبيات وشبكات الفساد، وفرض حل سياسي يعطي للشعب فرصة اتخاذ القرار بشأن من يراه مناسبًا لقيادة الدولة نحو توحيدها وتأمين حدودها ومقدّراتها، وفرض القانون، واحتكار السلاح، وملاحقة من أجرموا في حقها وحق المجتمع.
كما أن مراسيم المنفي تهدف إلى القفز على حقيقة يحاول البعض تجاهلها عمدًا، وهي أن فقدان مجلسي النواب والدولة شرعيتهما بانقضاء مدة التكليف وآجال الممارسة العملية للمهام الموكلة إليهما لا يختلف كثيرًا عن وضعية المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، اللذين تم انتخابهما في فبراير 2021 لإدارة فترة الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة في ديسمبر من نفس العام، ومنحهما الاتفاق السياسي مهلة لا تتجاوز 18 شهرًا في أقصى الحالات لتسليم المهام لمن يتم انتخابه أو اختياره لحكم البلاد.
إلا أن لعبة التحايل السياسي التي تم اعتمادها أفشلت خطة تنظيم الانتخابات، وعززت حالة الانقسام، وأغلقت أبواب الاجتهاد للخروج من مربع الجمود، كما كرّست نظامًا مستحدثًا متخصصًا في نهب المال العام، وتخدير الجماهير، وشراء المواقف الدولية عبر دبلوماسية الصفقات والعقود، ونسج شبكة التبعيات الخارجية إقليميًا ودوليًا.