ملء أوقات فراغ الأبناء بأنشطة مفيدة مشكلة تؤرق الأسرة التونسية

تونس – تمثل أوقات فراغ الأبناء مشكلة حقيقية بالنسبة إلى الأسرة عندما لا تجد سبلا كفيلة لتحويلها إلى أوقات مفيدة لهم. وقد أثبتت العديد من الدراسات الاجتماعية التي تتناول بالبحث الأسباب التي تدفع المراهقين والشباب نحو الانحراف والعنف وحتى الجريمة، أن الاختلاط المباشر وغير المباشر بأشخاص سيئي السلوك والأخلاق يعد من أبرز أسباب الانحراف في المجتمع التونسي.
ويجد الطفل أو المراهق أحيانا نفسه مضطرا لقضاء ساعات طويلة في الشارع دون مرافقة أو رقابة من الوالدين، وذلك بسبب غياب البدائل من فضاءات ترفيهية حكومية مثل النوادي الرياضية ودور الثقافة ونوادي الفنون كالمسرح والرسم والموسيقى والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهي مرافق تشهد مختلف محافظات الجمهورية التونسية نقصا فادحا فيها.
أما النوادي الترفيهية على ملك الخواص، سواء العائلية أو الموجهة للأطفال، فهي موجودة غالبا في المدن ذات الكثافة السكانية العاليـة وفي المنـاطق الـراقية تحديدا. كمـا أن تكاليف تسجيل الأبناء فيها باهظة وهي ليست في متناول الجميع. ولا تمتلك الأسر من الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة القدرة على توفير مصاريف تسجيل أبنائها فيها. وكذلك الحال في الجهات البعيدة عن العاصمة والمـدن الكبـرى مثـل القـرى والأريـاف، فهي إمـا نـادرة وإمـا منعدمة تماما.
وتقول سمر معلاوي، وهي أم لثلاثة أطفال تقطن بإحدى قرى الجنوب التونسي، إن شغل أوقات فراغ أبنائها بات بالنسبة إليها مشكلة مزعجة لم تجد لها حلولا. وتضيف أن أكبرهم وهو في سن المراهقة يمضي أغلب ساعات اليوم وخاصة خلال العطلة في الشارع أو في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاتفه الجوال، وأنه رغم صغر سنه أصبح يدخن السجائر وذلك بسبب اختلاطه بشباب أكبر منه سنا وأغلبهم من المنحرفين. وتشير الأم سمر إلى أنها باتت عاجزة على إقناعه بالبقاء في البيت أو بإمضاء وقت في المطالعة مثلا لأنه لا يميل إليها.
وتؤكد سمر لـ“العرب” أن الوضع ليس أفضل مع إخوته وأن معاناتها مع أبنائها ليست استثناء في هذه البيئة الريفية حيث تعجز غالبية الأمهات على توفير بدائل لأبنائهن، فإما أن يحبسنهم في المنزل أمام التلفزيون لساعات طويلة ويتحملن الفوضى التي يقومون بها وإما يتركنهم يمضون ساعات الفراغ في الشارع.
وتشير معلاوي إلى أن جل الأطفال في القرى الريفية يميلون إلى ممارسة هواياتهم مثل رياضة كرة القدم أو الرسم أو الموسيقى، لكنهم يصطدمون بواقع تنعدم فيه النوادي والفضاءات الترفيهية التي من شأنها أن تحتضنهم وتحميهم من أهوال الشارع.
لا يجد أغلب الآباء والأمهات الطرق الملائمة لجعل الطفل يمضي وقت الفراغ في أشياء ممتعة لا ترهقهم معنويا وماديا
ومن جانب آخر يؤثر غياب الآباء طيلة يوم كامل بسبب العمل على قدراتهم على مراقبة أبنائهم وتكون مشاركتهم أو إشرافهم على شغل أوقات فراغ أبنائهم شبه منعدمين. وفي بعض الحالات عندما تكون الأم لا تعمل، فإن حاجتها لساعات من الوقت للقيام بشؤون البيت والاهتمام بباقي أفراد الأسرة تجعلها تبحث عن أي وسيلة لإلهاء الأبناء بوقت الفراغ دون التركيز على الاستفادة أو الضرر الحاصل من وسيلة إلهائهم، فتتركهم إما في الشارع وإما أمام شاشة التلفزيون أو أمام الحاسوب وغيرها من الأجهزة الإلكترونية لساعات طويلة.
وكثيرا ما يحذر المختصون في التربية وعلم النفس الوالدين بضرورة مراقبة تعامل الأنباء مع الأجهزة الإلكترونية مثل الكمبيوتر والهواتف الجوالة وتحديد مدة زمنية معينة تتناسب مع سن الطفل مع الحرص على حسن اختيار الألعاب والمواقع التي يطلع عليها الطفل لضمان استفادته منها.
كما يشددون على ضرورة عدم ترك الطفل أو المراهق يمضي ساعات طويلة أمام شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر، وذلك بسبب الأضرار التي يمكن أن تسببها له سواء بدنيا أو ذهنيا أو نفسيا، وهو ما أثبتته العديد من الدراسات التي أكدت التأثير السلبي لهذه الوسائل الترفيهية على صحة الطفل.
ويرى المختصون في علم الاجتماع أن نقص الوعي لدى بعض الآبـاء بسبـب الفـوارق في مستوياتهم التعليمية أو غيرها مـن الأسبـاب التي تجعلهم لا يدركون أهمية الاستثمار في ملء أوقات فـراغ الأبناء. كما لا يعيرها الكثير منهم الاهتمام الذي تستحق، بل إن بعض الآباء يبحثون عن سبل لإلهاء الأبناء ليتفرغوا هم إلى أعمال أخرى أو لأخذ قسط من الراحة غير مدركين لتداعيات ذلك على بناء شخصية الطفل وسلامة تكوينه.
وكثيرة هي الأسر التي تسببت في أضرار صحية ونفسية لأبنائها بسبب سوء التصرف في أوقات فراغهم وعدم تركيزها على كيفية إفادتهم منها، وهو ما تكشفه العديد من البحوث الاجتماعية والإحصائيات الرسمية في مجال صحة الأطفال، حيث أرجعت إصابة الكثير من الأطفال بأمراض نفسية وعقلية مثل التوحد إلى ترك الآباء لأبنائهم ساعات طويلة أمام شاشة التلفزيون.
ومن جانب آخر تشير تقارير صادرة عن وزارة الصحة التونسية إلى أن حالات الإصابة بالسمنة وبعض الأمراض النفسية مثل العزلة والنزوع نحو العنف، مردها عدم ممارسة الطفل لأنشطة رياضية وقضائه وقتا طويلا في ممارسة ألعاب إلكترونية عنيفة أو بسبب متابعته لأفلام تعرض مشاهد عنيفة تؤثر على سلوكه في ما بعد، أو أن السبب كامن في قضائه لأوقات طويلة وحده في البيت دون مده بوسائل لعب أو ترفيه من خلال بعض الألعاب التي تتطلب حركة بدنية ونشاطا فكريا.
ولا يجد أغلب الآباء والأمهات الطرق الملائمة لجعل الطفل يمضي وقت الفراغ في أشياء ممتعة لا ترهقه معنويا وماديا ولا تترك لديه أثارا سلبية في الوقت نفسه، وهو ما يجعل أوقات الفراغ مشكلة يعجز الآباء في تونس على التعامل معها وإيجاد حلول ملائمة لها في ظل نقص الوعي وضعف الإمكانيات المادية وكذلك ضعف اهتمام الدولة بتوفير فضاءات ترفيهية قادرة على احتضان الأطفال وإفادتهم.