مكتبة الإسكندرية تتخلى عن أبراج النخبة وتقترب من الشعب

أحمد زايد: البسطاء ينتجون ثقافة يجب التعرف عليها.
الجمعة 2022/11/11
المكتبة ستتحول إلى منارة مفتوحة للجميع

كان تعيين عالم الاجتماع السياسي الدكتور أحمد زايد مديرا لمكتبة الإسكندرية، خلفا للسياسي المخضرم مصطفى الفقي، محل ترحيب من المثقفين المصريين، خاصة مع ملامح المشروع الثقافي المختلف جذريا الذي جاء به، والذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار حوله، إثر لقائه على هامش مؤتمر عن المجتمع المدني استضافته المكتبة يومي الأول والثاني من نوفمبر الجاري.

الإسكندرية (مصر) - منذ تعيين عالم الاجتماع السياسي الدكتور أحمد زايد مديرا لمكتبة الإسكندرية قبل خمسة أشهر والعيون مصوبة نحوها لمعرفة الصورة التي سوف تظهر بها والحلة الثقافية التي تريد أن ترتديها وعلى رأسها مديرها الجديد خلفا للسياسي المخضرم  مصطفى الفقي الذي لم يستطع أن ينهض بالمكتبة كما يجب أو كما توقعت شريحة كبيرة من النخبة المصرية عوّلت على خبراته السياسية الطويلة ومعرفته الدقيقة بدهاليز الثقافة والمثقفين.

جاء الرهان على الدكتور أحمد عبدالله زايد كبيرا لأن مكتبة الإسكندرية حرمت تقريبا، على مدار أكثر من عامين، من الأنشطة الجماهيرية مثل غيرها بسبب انتشار فايروس كورونا الذي انحسر الآن وبدأت الأجواء تستعيد نشاطها مع مسؤول تكن له شريحة كبيرة من المثقفين ثقة بالغة في مهاراته الإدارية وقدراته الفكرية، وتتمنى أن يعيد للإسكندرية دورها كجهة توعويّة.

ويؤكد الدكتور أحمد زايد أن اختياره أول مؤتمر كبير تعقده المكتبة في ظل ولايته لا علاقة له بتخصصه كعالم اجتماع، ربما يكون ذلك أسهم بشكل غير مباشر، لكن الرسالة التي كان حريصا على توصيلها هي المزاوجة بين السلوكيات والأفعال والبعد عن "السلطوية" المقيتة والنزول إلى المجتمع ومعرفة تصوراته ورؤاه عمليا من أرض الواقع، فمن المهم التعرف على السلوك المدني والحفاظ عليه.

ويبدو زايد عازما على أن يحول المكتبة إلى منارة مفتوحة للجميع وتلقي الأفكار المتنوعة، ولا تقتصر على النخبة، يقصدها شبان وفتيات من أماكن بعيدة في مصر، يقينا منه أن الثقافة تنتج في مستوى النخبة، والبسطاء ينتجون ثقافة شعبية من الضروري التعرف عليها والغوص في تفاصيلها، والاقتراب من التجليات التي تحملها بشأن علم لا تزال مضامينه غائبة عن إدراك الكثيرين ويحتاج إلى المزيد من التعريف به.

توسيع أطر الحريات

أحمد زايد: الحوار مفتوح داخل المكتبة وغير محدود بسقف منخفض في حرية التعبير عن الآراء المختلفة
أحمد زايد: الحوار مفتوح داخل المكتبة وغير محدود بسقف منخفض في حرية التعبير عن الآراء المختلفة

يقول في حديثه مع "العرب" إن "الحوار مفتوح داخل المكتبة وغير محدود بسقف منخفض في حرية التعبير عن الآراء المختلفة، ومع العصف الذهني الذي يصب في صالح الدولة والمجتمع، لأن مهمة المثقفين المتمثلة في التنوير يجب أن تتمتع بهامش كبير من الحرية كي تنتج أفكارا خلاّقة يمكن توظيفها في زيادة الوعي العام".

ويدلل زايد بما شاهده الحضور من حس نقدي مرتفع في المؤتمر الأخير على أن المكتبة تنوي أداء رسالتها في ظل الاستفادة من توسيع الحريات كضامن أساسي لنجاح دورها في الفضاء العام الذي ينتعش كلما زادت درجتها.

ويذكر أن استعراض التجارب العملية ونماذج حية للجمعيات الأهلية من خلال مكتبة الإسكندرية يسهم في اكتشاف المشاكل والعمل على حلها، ويساعد على تأكيد أن هذه الجهات قد تعمل في أماكن نائية مكشوفة، وعلينا أن نقدم لها يد العون، حيث تقدم في النهاية حصيلة ثقافية تنعكس في سلوكيات المحيطين بها وترتقي بالمجتمع.

ويشير إلى أن مكتبة الإسكندرية تعمل على القيام بدورها في هذا السياق وعقد سلسلة من المؤتمرات وورش العمل بحضور منخرطين مباشرة في هموم المجتمع المدني ونقل تجاربهم إلى الآخرين، والربط بين ذلك وبين ما يجري في الفضاء الثقافي العام أملا في القيام بأنشطة أكثر فائدة في المستقبل.

ويلفت في حواره مع "العرب" إلى أهمية عدم مصادرة الأفكار، وإلى أن منهجه في العمل يقوم على الانفتاح على جميع التوجهات ومختلف المجالات وانتقاء الممارسات الفضلى للجمعيات ومساعدتها لتصبح بؤرا تجذب إليها مواطنين يرغبون في المساهمة في العمل العام، وهو فعل ثقافي يؤدي إلى نتائج تنعكس على الناس وتزيد وعيهم.

وحققت مكتبة الإسكندرية انتشارا كبيرا منذ افتتاحها قبل نحو عشرين عاما، وتحولت إلى مركز جذب يتوجه إليه المثقفون من مصر ودول مختلفة، ونجحت في خلق صورة ذهنية كمكان لتزاوج الأفكار، خاصة في عهد مديرها الأول إسماعيل سراج الدين الذي حظي بدعم كبير من الدولة المصرية مكنه من القيام بأنشطة ثقافية عدة حركت المياه في مجالات فكرية متباينة، وأوحت بأن النظام المصري في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك حرص على رعاية القوى الناعمة وخلق تنوع في الأنشطة الثقافية التي قامت بها في ذلك الوقت وتركت انطباعا بأهمية الدور المعنوي الذي تقوم به.

ويميل زايد كمثقف وعالم اجتماع وعضو مجلس الشيوخ المصري، وقريب من عالم السياسة ودروبها، إلى إحياء الدور الثقافي للمكتبة وتطويره من ناحية رسالته المجتمعية، وهو توجه حصيف يتماشى مع التوجهات العامة في الدولة التي تدعم الأفكار العملية وتبتعد عن حصر الثقافة في أطر خيالية.

إحياء الدور الثقافي

انفتاح على المشروعات الثقافية القريبة من وجدان وعقول الناس
انفتاح على المشروعات الثقافية القريبة من وجدان وعقول الناس

يشدد مدير مكتبة الإسكندرية في حواره مع “العرب” على أن أجندته تحمل الكثير من المشروعات الثقافية القريبة من وجدان وعقول الناس، والقيام بنقلة نوعية في هذا المجال الذي يبدو بعيدا عن اهتمامات الكثير من المؤسسات الثقافية، من خلال الإعداد لمسابقات في القراءة والإبداع على مستوى القطر المصري كله وانتقاء مثقفين يقومون بأدوار مباشرة لكسب معركة التنوير في الأقاليم البعيدة عن الأضواء، والخروج من إطار هيمنة مدينتي القاهرة والإسكندرية على غالبية الفعاليات.

وللدكتور زايد مفهوم محدد للتنوير يبتعد عن "الكليشيهات" التقليدية والمفردات الصماء التي اعتاد المثقفون على ترديدها في لقاءاتهم، فهو يتحدث عن التنوير بوصفه سلوكا وممارسات تحمل أفكارا منتجة ومن دون وصاية على أحد أو احتكار من أحد، أملا في توفير تراكمات وإيجاد ديناميات ثقافية تقود إلى الحراك في المجتمع، فالحياة الثقافية بمصر في أشد الحاجة إلى إنعاش يمنحها القدرة على التواصل بين الجميع.

مكتبة الإسكندرية لعبت دورها كحلقة وصل بين المثقفين والدولة المصرية لتذليل العقبات التي تعتري العلاقة بينهما

ولعبت مكتبة الإسكندرية دورا سابقا كحلقة وصل أو قناة بين المثقفين والدولة المصرية لتذليل العقبات التي تعتري دوما العلاقة بينهما، حيث يحمل كل طرف ميراثا سلبيا تجاه الآخر، فالدولة تعتقد أن المثقفين يعيشون في أبراج عاجية ومنفصلون عن نبض المجتمع، بينما هؤلاء يرون أن الدولة لا تريد ثقافة أو مثقفين وتظهر في مخيلتهم كمن “يضع مسدسا في جنبه ويتحسسه كلما سمع اسم مثقف”، وهي صورة مستمدة من ميراث طويل غامض حول العلاقة بين السلطة والثقافة.

ويريد أحمد زايد ردم الهوة وإزالة الالتباسات الحاصلة في ذهن كل جانب من خلال تعميق الدور التنويري لمكتبة الإسكندرية والخروج بها إلى فضاءات تتجاوز حدود جدرانها المادية، دون أن ينكر العلاقة الشائكة بين المثقفين والدولة، والتي بها البعد والقرب، والنقد والتأييد، والامتعاض والقبول، ومفردات حافلة بالتناقضات، ما يضع على كاهل المكتبة دور المساهمة في تفكيك هذه العلاقة وإزالة الشوائب عنها سعيا نحو تقريبها لتجاوز ما يراه البعض خلافا جوهريا بين السلطة والمثقفين.

قناة بين السلطة والمثقفين

مهمة لا يستهان بها في تفكيك الالتباس وتقريب المسافات بين الدولة والمثقفين
مهمة لا يستهان بها في تفكيك الالتباس وتقريب المسافات بين الدولة والمثقفين

يتولى زايد مسؤولية لجنة الثقافة في الحوار الوطني الشامل الذي دعا إليه الرئيس السيسي في أبريل الماضي، وهي واحدة من اللجان النوعية في الحوار، مهمتها في رأيه المساهمة ولو جزئيا في تفكيك الالتباس وتقريب المسافات بين الدولة والمثقفين، ومن منطلق موقعه في المكتبة يخطط لعقد لقاءات بين العديد من المثقفين في مقر المكتبة بوسط القاهرة المعروف بـ"بيت الساري" لطرح جملة من الأفكار القابلة للتطبيق وتحويلها إلى ممارسات عملية.

ويكشف مدير المكتبة عن عقد سلسلة من المنتديات يحضرها مثقفون من مختلف أنحاء مصر، وإجراء لقاءات تحت إشرافها في أماكن نائية بغرض عدم حصر دور المكتبة في مقرها بمدينة الإسكندرية، لأنه رمز لأفكار ثقافة وليس مقرا فقط، وسوف تضاف إلى منتدى السرد حاليا منتديات للشعر والمسرح والدراما والفن التشكيلي، وهي بديلة عن فكرة اللجان التي سادت سابقا.

◙ المدير الجديد للمكتبة يسعى إلى ردم الهوة بين المثقف والسلطة وإزالة الالتباسات الحاصلة في ذهن كل منهما

ويوضح زايد أنه سيعمل على أن تكون مكتبة الإسكندرية محركا عمليا وكبيرا للأطر الثقافية داخل مصر وخارجها، حيث وضع خطة لعقد منتدى ثقافي عربي يجمع الكثير من المثقفين العرب، وذلك ترسيخا للفكرة التي ولدت مع بدايات افتتاح المكتبة ودشنت معها ما عرف بـ"منتدى الإصلاح العربي".

ويشير في حواره مع "العرب" إلى أنه معني بالتركيز على تغيير طريقة التفكير عند عموم الناس، ومن يترددون على المكتبة ويطلعون على أنشطتها، وسيبدأ قريبا برنامج باسم "حوارات الإسكندرية" يجمع بين شخصية مصرية لديها تراكمات معرفية في مجال معين وأخرى أجنبية أو عربية، ويتم اختيار فكرة وطرح موضوع عليهما مناقشته باستفاضة عالية.

ويؤكد أنه يعمل على العودة إلى دور مكتبة الإسكندرية القديم كمكان تنصهر فيه الثقافات المتعددة أو ما يعرف بـ"الكوزموبوليتانية" مصحوبة بسقف مرتفع من حرية التعبير وتستوعب كل الآراء المختلفة.

ويشير إلى أنه ضد الأفكار الرأسية ولا يؤيد الاصطفافات التي توصي بسيطرة فكرة على أخرى، ويعمل على دعم الأفكار الحداثية والممارسات التنويرية الحقيقية، والمزاوجة بين السلوكيات والأفعال، والبعد بشتى الطرق عن السلطوية والأنساق المعلبة، ومعني بأن يكون الضابط المحوري لكل حوار تحت سقف الإسكندرية هو المسؤولية الأخلاقية في إطار منظومة متكاملة، لأن المكتبة جزء من كل يعمل من أجل التنوير وتطوير آفاق الثقافة لدى عموم المصريين.

فرصة لجميع الشرائح والفئات للاطلاع على ثراء الثقافة المصرية
فرصة لجميع الشرائح والفئات للاطلاع على ثراء الثقافة المصرية 

13